(صربيا – كرواتيا – مقدونيا – سلوفينيا – الجبل الأسود – البوسنة والهرسك – كوسوفو) هذه الدول السبع كانت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب الباردة منصهرةً في دولة واحدة تسمى “يوغسلافيا”، تقبع وتتمدد داخل شبه جزيرة البلقان، وكان زعيمها المستبد الطاغية “تيتو” يحكمها في ظل الشيوعية بالحديد والنار، لكنْ لا الحديد استطاع أن يُحْكم قبضته على الانتماءات الدينية المتوزعة بنسب متقاربة بين الأرثوذكسية والكاثولوكية والإسلام، ولا النار استطاعت أن تذيب الفوارق بين الثقافات المختلفة التي تدافعت في العقول والقلوب وتنافرت في المشاعر والأحاسيس، فلمّا سقط جدار برلين معلنًا عن انتهاء الحقبة السوفيتية؛ انهارت كل الجدر التي كانت تحجز بين كل هذه المكونات، وعلى حد قول “هنتنغتون”، فإنّ “تقسيم العالم القائم على الحرب الباردة قد انتهى، وانقسامات البشرية على أساس العرق والدين والحضارة تظل كما هي، وتفرخ صراعات جديدة”.
مجزرة في قلب أوربا تختم قرن الأهوال
لم يبتعد “روسُّو” عن روح الإسلام عندما قرر في العقد الاجتماعيّ هذا المبدأ “بما أنَّه ليس لإنسان سلطان طبيعي على مثله، وبما أنَّ القوة لا توجب أي حق؛ فإنَّ العهود تظل أساسًا لأي سلطان شرعي بين الناس”، وإنْ كانت هذه العهود في الإسلام تأخذ بعدًا أكثر عمقًا وأقرب إلى وظيفة الإنسان كخليفة في أرض الله من ذلك البعد الكامن في الفلسفة الغربية، لكنّ الواقع أنّ الغرب الذي طبَّق هذا المبدأ في التأسيس لشرعية الحكم على الصعيد الداخليّ، لم يكترث به على الصعيد الإنسانيّ العام؛ فاستباح كل المخالفين له في الثقافة والدين، ومع صعود الخطاب التبشيريّ أو على حدّ تعبير “ريتشارد كوك” “النص الأشد ظلمة”؛ ازدادت هذه الروح القمعية؛ وكان من نتائج ذلك الجريمة المروعة التي ارتكبها الصرب في حق البوسنيين في المدة من 1992 إلى 1995، لمجرد أنّهم أرادوا الاستقلال!
بعد أن أعلنت كرواتيا وسلوفينيا وغيرهما الاستقلال عن يوغسلافيا، تطلعت البوسنة والهرسك إلى ذلك؛ فعزّ الأمر على الصرب الذين لم ينسوا هزيمتهم أمام العثمانيين قبل ستة قرون، فلمّا أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها استعان صرب البوسنة ببلغراد التي أمدتهم بالسلاح والعتاد والجند؛ لتقع الحرب غير المتكافئة؛ مما أدى إلى مقتل أكثر من 200 ألف مسلم بوسنيّ منهم نساء وأطفال وشيوخ، واغتصاب أكثر من 50 ألف امرأة وفتاة وطفلة مسلمة، إضافة إلى ما يزيد على مليوني لاجئ، وتدمير أكثر من 650 مسجد وحرق أكثر من 1.5 مليون كتاب ومخطوطة، كل ذلك وأوربا تدير ظهرها للمجزرة ريثما ينتهي الصرب من التطهير العرقيّ المطلوب، واستمرت رحى الحرب تدور على أهل البوسنة ثلاثة أعوام، وقصارى جهد الأمم المتحدة يومها مساعدات إنسانية؛ وكأنّها عزّ عليها -حسب هوفمان- أن يُذبَح المسلمون وهم جوعى أو تُغتصَب نساؤهم وبطونهن خاوية! وبمجرد أن استفاق البوسنيون وكوَّنوا جيشًا للدفاع عن أنفسهم، جاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتدخلت القوات الدولية لإيقاف الحرب! وحتى بعد التدخل وبعد إعلان “سربرنيتسا” منطقة آمنة، قامت القوات الصربية في 11 يوليو/تموز 1995 بغزوها، وارتكبت فيها أكبر مجزرة في تاريخ أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، راح ضحيتها أكثر من 8300 مسلم ما بين سن السابعة إلى السبعين، وقامت القوات الهولندية العاملة هناك بتسليم البوسنيين إلى الصرب!
هل يُنكأ الجرح من جديد؟
كأنّ زعيم صرب البوسنة “ميلارود دوديك” يتوق إلى أمجاد سلفه “سلوبودان ميلوسوفيتش” المُدان الأول من قِبل محكمة لاهاي في جريمة مجزرة البوسنة، فها هو يتحرش باتفاقية “دايتون” للسلام، التي أقرت تقسيم أراضي البوسنة والهرسك إلى منطقتين؛ إحداهما لصرب البوسنة تتمتع بحكم ذاتي مُعزَّز، والأخرى للاتحاد البوسني الكرواتي بحكومة مركزية هشّة، واتكأ على ذرائع من نوع الذرائع التي يتكئ عليها صرب كوسوفو للتحرش بالسلم، فعلى أثر مشكلة تتعلق بحقوق الملكية “هل هي لكل كيان على حدة أم للحكومة المركزية؟”، قام زعيم جمهورية صرب البوسنة بالتهديد بإعلان الاستقلال.
ومنذ أيام قلائل، خطا نحو تفجير الأوضاع خطوة أكثر خطورة، حيث وَقَّع قانونًا يلغي سلطة الممثل السامي الدولي داخل الكيان الصربي في البوسنة، وهو إجراء عَدَّته أمريكا مُقوضًا لاتفاقية “دايتون” للسلام، ولعل من دوافع هذا الإجراء أنّ الممثل السامي “كريستيان شميت” الذي عُيّن في هذا المنصب عام 2021 تعهّد منذ فترة بضمان اتخاذ إجراءات قانونية ضدّ كل من ينكر اعتبار مجزرة “سربرنيتسا” إبادة جماعية، وما مِن شكّ في أنّ روسيا “الأرثوذكسية” شجعت صرب البوسنة على اتخاذ هذا الإجراء؛ فقد تقدمت من قَبْلُ إلى مجلس الأمن باقتراح مشروع قرار يقضي بإغلاق مكتب الممثل السامي. هذا هو الغرب المتحضر الذي لا يزال ينسب إلى نفسه حماية الحريات ورعاية حقوق الإنسان، بينما الواقع كما يصوره “ليمرت” بقوله: “إنّ اكتشاف الغرب وبقاءَهُ تأسَّسا على الإنكار الكبير لحقيقة عدوانه وشرّه”. ويعلق “باميرا”: “ويكون الموقف الحاليّ بتجاهل هذه الأحداث وتجنبها وحظرها وعدم التأمل فيها كجزء من تاريخ الغرب في تصور الغرب لذاته؛ إنّهم يحتاجون إلى اهتمام عاجل!”
السبيل إلى تكميم البركان
مع أنّه لا سبيل إلى ردّ العدوان إلا بالقوة الرادعة، ومع أنّه لا يختلف اثنان في ضرورة أن تلجأ البوسنة والهرسك وكوسوفو إلى التعجيل بتطوير المنظومة الأمنية والعسكرية، فإنّ حلولًا كثيرة تُطرح من حين إلى آخر، كان من أفضلها ما اقترحه الرئيس أردوغان في كتابه “نحو عالم أكثر عدلًا” عندما قال: “وكما كافحت البشرية معاداة السامية بعد كارثة الهولوكوست؛ يجب عليها أن تكافح معاداة الإسلام بالعزم والإصرار ذاته”، فإذا طورنا هذا المقترح بالنضال الحقوقي والقانوني لتتحول مجزرة البوسنة إلى هولوكوست جديد، تصدر لأجله القوانين التي يكون لها أثر سياسي واجتماعي لحماية دول المنطقة، ويبقى في النهاية أنّ الأمة الإسلامية قادرة -إن شاءت- على حماية أطرافها من الانتهاك، قادرة بما لديها من أوراق ضغط كثيرة بمستويات عديدة على إيقاف حرب غير شرعية وغير عادلة، وقادرة كذلك على إرغام الكثيرين على احترام كلمتها وعدم المساس بكرامتها.
Leave A Comment