بناء نظام يحقق مقاصد الشريعة 2

معالمه ومقاصده

د. وصفي أبو زيد

التعريف بمقاصد الشريعة وأهميتها:

هي “الغايات التي تهدف إليها النصوص من الأوامر والنواهي والإباحات, وتسعى الأحكام الجزئية إلى تحقيقها في حياة المكلفين أفرادا وأسرا وجماعات”.

ولذا كان الاستحسان فى نظر الإمام مالك يمثل تسعة أعشار الاجتهاد الفقهي, وكان معنى الاستحسان هو مراعاة المصلحة والعدل, وهذا يعني أن على الفقيه ألا يغيب عنه الالتفات إلى مقصود الشارع، وهو المصلحة والعدل, فإذا وجد مصالح مهملة ومضيعة, فالاستحسان يقتضيه أن يجتهد ويقرر ما يعيد لها اعتبارها ويؤدي إلى حفظها، وإن رأى أضرارا قائمة, فالاستحسان أن يجتهد ويفتي بما يمنع تلك الأضرار, وإذا رأى نصوصا شرعية تفهم على نحو يقتضي حصول ضرر محقق, أو تفويت مصلحة محترمة في الشرع, استحسن إعادة النظر في ذلك الفهم، وإن وجد قياسا غير سليم، أو في غير محله, فيستحسن ألا يتقيد به, وأن يرجع للقواعد العامة للشريعة، وبهذا يكون الاستحسان – فعلا – تسعة أعشار العلم.

كما عقد ابن القيم فصلا مهما عن “سد الذرائع” أظهر فيه المنزلة الكبيرة لهذه القاعدة في الدين، وانتهى فيه إلى أن سد الذرائع هو أحد أرباع التكليف. وقاعدة سد الذرائع تقوم في الأصل وبصورة مباشرة على حفظ المقاصد والمصالح, اعتمادا على أن الشارع ما شرع أحكامه إلا لتحقيق مقاصدها من جلب المصالح ودرء المفاسد. فإذا أصبحت أحكامه تستعمل ذريعة لغير ما شرعت له، ويتوسل بها إلى خلاف مقاصدها الحقيقية، فإن الشرع لا يقر إفساد أحكامه وتعطيل مقاصده, ولا يجوز لأهل الشريعة أن يقفوا مكتوفي الأيدى أمام هذ التحريف للأحكام عن مقاصدها بدعوى عدم مخالفة ظواهرها ورسومها.

حقيقة مقاصد الشارع وعلاقتها بالنصوص:

باستقراء أدلة الشريعة يثبت قطعا أن الشارع قصد إلى حفظ المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية، وإذا أصبحت أحكام الشريعة تُتَّخذ ذريعة لغير ما شرعت له ويتوسل بها إلى خلاف مقاصدها الحقيقية, فإن الشرع لا يقر إفساد أحكامه وتعطيل مقاصده من قبل الأفراد أو المجتمعات, ولا يجوز لأهل الشريعة أن يقفوا مكتوفي الأيدى أمام تحريف الأحكام عن مقاصدها بدعوى عدم مخالفة ظواهرها, فالعبرة بالمقاصد وليس الظواهر.

وهنا لابد أن نسأل عما بين مقاصد الشريعة وأحكامها؛ أتعارض هو أم تكامل؟

حينما يرد هذا المصطلح (مقاصد الشريعة)، تجده مصوغا على هيئة المركب الإضافي؛ أي أن لفظ “الشريعة” مضاف إلى لفظ “المقاصد” ومقيِّد لها، فالمقاصد المعتبرة مستقاة من الشريعة ومأخوذة منها عبر مسالكها المعتبرة عند أهلها، والشريعة لا تُفهم إلا في ضوء هذه المقاصد؛ فمن جاءنا بمقصد نقول له: (من أين لك هذا، ومن أي النصوص أتيت به؟)، ومن فهم الشريعة بغير مقاصدها نقول له: (لقد عطلتَ الشريعة عن مسايرة الواقع واستيعاب مستجداته، وحَسَرْتَ سلطانها عن أن يُبسَطَ على الواقع بنوزاله والحياةِ بتغيراتها).

لكن أليست سلطة النصوص داعية إلى الخوف منها؛ أن يجور الفقيه على المقاصد خشية أن يخالف النص؟

وفي الحقيقة هناك من يظن أن النصوص الشرعية مُقيِّدة لحركة العالم وعقل الفقيه واستنباطه، وويرون أنه لابد من الانطلاق من أرضية المصالح والمقاصد لا من النصوص؛ كي نحقق مصالح الإنسان، ونعزز عمارة الحياة، ونقوم بحاجات الواقع، ونَفِي بمتطلبات العصر!

 والواقع أن هؤلاء لم يفهموا الشريعة، ولم يعرفوا مقاصدها حق المعرفة، ولم يدرسوها أو يشموا رائحتها؛ فالشريعة نزلت أصلا لمصالح الناس في المعاش والمعاد جميعا، كما أطبق على ذلك علماء الأمة على مر العصور، وما جاءت النصوص إلا لذلك، ولذلك فحسب، ومن طالع كتاب (القواعد الكبرى) للشيخ الكبير العز بن عبد السلام وغيره، يقف على هذا بكل وضوح؛ حيث أقام الشريعة كلها على مبدأ وحيد، هو: (جلب المصالح ودفع المفاسد)، ومن تأمل التشريعات والأحكام والنصوص جميعا لم يجد نصًّا واحدًا نزل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة، وهو أمر قد يتجلى أمام نظر الفقيه العالم وقد يكون كامنا مكتنَزا في أحشاء النص والتكليف.

كما أن المقاصد ليست شيئًا خارجًا عن ماهية الشريعة، ولا مستوردًا من خارج نصوصها؛ وبناء على ذلك فإن المقاصد التي ستحررهم من النصوص – كما يرون – هي مقاصد وهمية لم تستثمر من مسالكها المعتبرة، وإنما جاءت من رغبتهم الجامحة في اتباع الهوى، والانسلاخ من التكليفات الشرعية، والمروق من النصوص كما يمرق السهم من الرمية.

وفي مقابل هذا يأتي السؤال عن الخوف من المقاصد أن يُتوسَّع فيها فتجور على النص، وكيف نضبط هذا؟

وهذا في حقيقة الأمر يتعلق بفريق آخر يرى أن فكرة المقاصد نفسها باب واسع للعلمانية، وما هي إلا شعار للإطاحة بنصوص الشريعة، ولافتة براقة للنفوذ منها إلى تفريغ الدين من مضمونه، والشريعة من محتواها، ولا تبقى هنالك إلا عناوين بلا مضامين، وأشكال بلا موضوعات، ومن ثم لا داعي لهذا العلم، ولا ضرورة لوجوده، فالأمة – في نظرهم – فهمت شريعتها وعملت بها قبل أن يوجد ما يسمى بـ (علم المقاصد)!

وهؤلاء – في الواقع – لا يفهمون الشريعة كذلك ولا يفهمون مقاصدها، فهم لا يدركون أن الشريعة نفسها نصَّتْ على مقاصدها العليا والعامة والخاصة والجزئية، ولا يليق بالله تعالى الذي سمى نفسه (الحكيم) أن يخلق الخلق عبثا، ولا أن يشرع الشرع بلا غاية، وإنما خلق الخلق وأنزل الشرع لحكم وغايات ابتنى عليها الخلق والأمر: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ﴾.

كما فات هؤلاء أن المقاصد بنت النصوص، ولا يمكن أن يكون هناك مقصد من خارج النصوص، ومن ثم لا تعارض بين نص ومقصد، ولا بين مقصد ونص؛ لأنهما كليهما من مصدر واحد ومن مشكاة واحدة؛ إنه الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾.