د. وصفي عاشور أبو زيد
“الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا”، هكذا كان يرى الشيخ محمد الغزالي كارثة الاستبداد وآثارها في الدين والدنيا؛ حيث كرس حياته – نصفها الأول – لمحاربة هذا الاستبداد من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الاستبداد هادم للحضارات، ومقوض للعمران، وطارد للكفاءات، ومعطل للطاقات، ومهدر للموارد؛ ولهذا استخقت محاربته أن تكون ضمن إرادة بناء حضارة وقيام أمة.
ولهذا يؤكد الشيخ أن (الاستبداد السياسي … ليس عصيانا جزئيا لتعاليم الإسلام، وليس إماتة لشرائع فرعية فيه، بل هو إفلات من ربقته ودمار على عقيدته) ([1])؛ وذلك لأن (الحكام المستبدين كالحشرات القذرة، لا تعيش أبدا فى جو نظيف، ولا تنصب شباكها للصيد والنهب إلا حيث الغفلة السائدة والجهالة القاتمة) ([2]). قال: (ونحب أن نقول بجلاء: إنه حيث يسود الحكم المطلق تنتقض الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها) ([3]).
وفي مواجهة الاستبداد المالي والمظالم الاجتماعية، خاض رحمه الله أوّل معاركه الفكرية، فأصدر عدّة مؤلّفات كانت لبنة في مشروعه الحضاري: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، “الإسلام والمناهج الاشتراكية”، “الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين”، “الإسلام في مواجهة الزحف الأحمر”، إذ قدّم فيها فكرًا ثوريًا بامتياز.
كيف لا؟ وهو الذي قال: (حيث يكون العسف والخسف لابد أن يكون الإسلام دينا ثائرا يطلب النصفة والرحمة. حيث يكون الاستعلاء والاستعباد لابد أن يكون المسلمون ثوارا ينشدون العزة والكرامة. وقد تكون عقبى الجهاد موتا في غربة، أو قتلا في معركة، والثائرون ضد الباطل أدنى الناس إلى البلاء والعطب. وماذا في هذا؟ إن ما يحذره غيرهم هو الذي ينشدون لأنفسهم! وتلك طبيعة الثائرين، إما أن يحيوا كما يريدون، أو يموتوا كما يريدون.إنهم عزيمة تؤثر في الحياة سلبا وإيجابا، وليسوا عربات تشد إلى جياد الآخرين) ([4]).
ويعتبر كتابه “الإسلام والاستبداد السياسي” علامة فارقة في هذا المسار الذي كان اسمه سببا لأن يكون الشيخ “بغيضا إلى الجهة الحاكمة”، وحكى الشيخ الغزالي عن هذا الكتاب بقوله: (أشهر كتبي عندما هاجمت فيه الطغيان وفساد الحكم وأسميته (الإسلام والاستبداد السياسي) وكان ذلك في أواخر الأربعينيات، وكان هذا اليوم من أهم أيام حياتي وأعتبره نقطة انطلاق لي… بمجرد أن نزل الكتاب إلى الأسواق فوجئت بالحكومة كلها تهتز وتصدر قرارا بمصادرة الكتاب، وأحسست أن القصر الملكي اهتز بشدة من هذا الكتاب وقبض علىّ وقدمت للمحاكمة بتهمة مهاجمة الحكومة، وخرجت من هذه القضية بدون أن يثبت علي شيء) ([5]).
بل إننا إذا أردنا أن نتأمل في المكتبة الإسلامية والكتابات عن الاستبداد فيها لا تخطئنا محطتان فارقتان، وكتابان رئيسان، ومصدران أساسيان، هما: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لعبد الرحمن الكواكبي، وكتاب: (الإسلام والاستبداد السياسي) لمحمد الغزالي.
كان الإمام الشيخ الغزالي يرى في الاستبداد عدوا للتقدم والحضارة، وكان يردد دائما: لا حرية حيث يكون هناك استبداد سياسي، لا دين حيث يكون هناك استبداد سياسي، لا حضارة حيث يكون هناك استبداد سياسي.
وكان يقول إن “الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعا. وهو دخان مشئوم الظل تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد، فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج”([6]).
حتى إن الشيخ في تعامله مع القرآن كان مهموما بالبحث في هذا الموضوع، متأملا القرآن ومتدبرا له في هذا الإطار – ضمن الأطر التي كان يهتم بها في تعامله مع القرآن الكريم؛ حيث تمتع الشيخ بنظرته الأصيلة، وقراءته الكلية للقرآن الكريم، قال: (تلوت سورة القصص، وربطت آخرها بأولها، فرأيت أن الله سبحانه شرح أحوال الاستبداد السياسى والطغيان الاقتصادى فى قصتى فرعون وقارون ثم ساق هذا القانون الحضارى الصارم (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). إنه بعد عشر صفحات من السرد التاريخى الحافل قرر هذه الخلاصة أن الاستعلاء والفساد يستحيل أن يأتيا بخير، كل فرد مزهو بنفسه فوضوى فى سلوكه سائب فى إدارته ظالم لغيره ناسٍ لربه لابد أن يجنى الويل من هذه الخلال) ([7]).
بل إن قوعد الإيمان ومعاقد الشريعة ومكارم الأخلاق لا يمكن أن يقدم عليها مسلم في ظل استبداد وظلم وخسف يفضي بالناس إلى التجويع والمرض والجهل والخراب العمراني والاقتصادي، يقول الشيخ: (لقد رأيتُ بعد تجارب عدّة أنّني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجوّ الملائم لغرس العقائد العظيمة والأعمال الصّالحة والأخلاق الفاضلة، إنّه من العسير جدًّا أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية، أو أن تكسوه بلباس التّقوى إذا كان بدنه عاريا ولابدّ من التمهيد الاقتصادي الواسع والإصلاح العمراني الشّامل إذا كنّا مخلصين حقًا في محاربة المعاصي والرّذائل والمعاصي باسم الدّين أو راغبين حقًّا في هداية النّاس لربّ العالمين) ([8]).
وكي تعتدل الكفة ويستقيم الميزان فإن الشيخ لم يكتفِ بمحاربة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي المفضيين للتخلف الحضاري، وإنما تحدث عن الحرية والشورى، وحق الأمة في اختيار من يحكمها ويسوسها، وأنها هي مصدر السلطة، يقول: (الأمة مصدر السلطة، هي وحدها التي تختار حكامها، وهي التي إذا شاءت عزلتهم، وليس لأحد حق إلهي، ولا وصاية عليا على الناس، تجعل وجوده السياسي ضربة لازب، أو تجعل انقياد الجماهير له فريضة محكمة. إذا كانت لشيء ما مكانة دينية فهو الرأي العام الإسلامي، الذي إذا أحب كانت محبته آية على رضوان الله، وإذا كره كانت كراهيته آية على سخطه) ([9]).
حتى إن الشيخ جعل للأمة الحق في ألا تسمع ولا تطيع حين يتناقض نصب الحاكم مع وظائفه، وهذا من صميم الحرية الجماعية، وتفعيل لأعلى مستوياتها، يقول: (والأمة في حل من السمع والطاعة بداهة إذا حكمت على أساس من جحد الفرائض، وإقرار المحرمات ونهب الحقوق وإجابة الشهوات؛ لأن معنى ذلك أن الحكم قد مرق من الإسلام، وفسق عن أمر الله، وأن الحاكمين أنفسهم قد انسلخوا عن الدين، فليس لهم على أحد عهد!!) ([10]).
بل جعل الشيخ الخطوة الأولى في بناء الحياة السياسية، متمثلة في طريقة اختيار الحاكم وكيفيتها، قال: (ونحن نلحظ ـ دون كد ـ جرثومة خبيثة تفتك بالسياسة الإسلامية، وتدع فراغا سيئا بين الأمة والدولة، تلك هي طريقة اختيار الحاكم الذي يلي الأمور، ويقود الأمة إلى ما لا تعرف وتقر من أهداف، ونحن نريد استئصال هذه الجرثومة لا تركها، والتغلب على ما تنشئ من علل وأوجاع) ([11]).
حتى في حرية الرأي والاجتهاد بضوابطه يرى أن هذا من مقومات بناء حضارة علمية ثقافية إنسانية، يقول: (فى أوج الحضارة الإسلامية كانت حرية الرأى مكفولة إلى حد بعيد، وكان البحث عن الحقيقة وتعرف وجه الصواب، ميسورا لكل من واتته الوسائل الصحيحة. وحيث لم يوجد فى مسألة علمية نص يعلو على الشبهة، ويثبت أمام التأويل، فإن المجال رحيب أمام عقول الرجال. أجل، حيث تتكاثر الأدلة، وتتلون أساليب الفهم ـ فى حدود قواعد اللغة ـ وتختلف الأنظار، ويختلف وزن المصلحة العامة، ويتسع الأفق، أو يضيق أمام مبتغى الحق، الساعى لكشف النقاب عنه، ففى الأمر مندوحة، ولا حرج على المسلم أن يعتنق أى مذهب، ويجنح إلى أى رأى) ([12]).
إن الشيخ الإمام محمد الغزالي يستحق أن تُرصد جهوده العلمية ومواقفه العملية عن الاستبداد وآثاره، وفي الحديث عن الحرية والشورى، وعن حق الأمة في الحياة الحرة الكريمة، واختيارها لمن يحكمها ليحرس دينها ويسوس حياتها به .. هذا الجانب يستحق الإبراز والبحث والدراسة عند الشيخ فيما أنتجه من علم، وفيما وقفه من مواقف، وخاضه من معارك، وبيان أهمية ذلك وانعكاساته على واقعنا المعاصر.
([1]) الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية: 57. دار نهضة مصر.
([2])الإسلام والاستبداد السياسي: 83. دار نهضة مصر.
([3]) من مقالات الشيخ الغزالي: 1/ 67.
([4])حصاد الغرور: 154. دار نهضة مصر.
([5])الإسلام والاستبداد السياسي: 8. دار نهضة مصر.
([6]) الإسلام والطاقات المعطلة: 40. دار نهضة مصر.
([7])الطريق من هنا: 16. دار نهضة مصر.
([8]) الإسلام والأوضاع الاقتصادية: 43. دار نهضة مصر.
([9]) معركة المصحف في العالم الإسلامي: 136. دار نهضة مصر.
([10])الإسلام والاستبداد السياسي: 163.
([11])معركة المصحف في العالم الإسلامي: 91.
([12])الإسلام المفترى عليه: 147. دار نهضة مصر.
Leave A Comment