بناء نظام يحقق مقاصد الشريعة 1
معالمه ومقاصده
د. وصفي أبو زيد
تقدمة:
تميزت رسالة الإسلام بخصائص تكفل لها أن تكون خاتمة الرسالات، فحُفظت أصولها وفروعها من التحريف والضياع، وامتازت بالمرونة التي تتجاوب بها مع مختلف الظروف والأحوال، وبقيت على الزمان طائفة من المؤمنين بها الثابتين عليها لا يضرهم من خالفهم، ووُكل إلى أهل العلم أن ينطقوا باسمها وفق منهج ثابت وقواعد معروفة.
وكلما سارت البشرية فى دروب الزمان تأكدت شهادة هذه الرسالة وقيوميتها على الناس؛ خاصة في هذا الزمان الذي تقاربت فيه البلدان، وازداد التواصل بين أطراف الأرض وبقاعها، ولم يبق إلا أن يتحقق فى هذه الأمة الخيرية والشهادة واقعا متمثلا فى مجتمعات تطبق ما جاءت به الرسالة لتحقيق مصالح العباد ومنافعهم ودرء المفاسد عنهم.
ووصول أمة الإسلام إلى هذه الغاية يتحقق ببناء نظام في أرض الله يحقق مقاصد الشريعة، أو قل: إن الشريعة نفسها هدفها ومقصدها هو إقامة الأمة الخيرة الشاهدة على الناس، ومن هنا فإن بناء جزئيات الواقع محقِّقةً للمقصود الشرعي منها هي اللبنات التي تترجم عن وجود الأمة الإسلامية في دنيا الناس وجودا حقيقيا.
النموذج الأمثل:
ولقد تحققت هذه الخيرية فى عهد النبوة تحققا تاما، ثم فى عهد الخلافة الراشدة على منهاج النبوة, وكان من أهم خصائص هذه الخلافة أن الخليفة الراشد كان يمثل مفهوم (أولي الأمر) بطرفيه: العلم والاجتهاد، ثم السلطان، وبالتالى كان الخليفة الراشد نموذجا فذا له سلطة يقيدها العلم والمعرفة وميراث النبوة الباقي, وله اجتهاد وفقه ومعرفة يزكيها العمل وتنقيها الممارسة، فتحقق العلم والعمل معا.
وراعى أمراء المسلمين – في مجملهم – مقاصد الشريعة على مر العصور، وكانت هذه المراعاة متفاوتة بحسب رشاد الحكم في عصوره المختلفة. وإن كان قد حدث هبوط وتراجع متتال في منحنى الرشاد مع انتقال الأمة إلى الملك العضوض ثم الجبري، فإنه لم يخل قرن من صحوة أو صحوات تعود بالناس إلى جادة الدين، وتثبت أن الأمة قادرة على أن ترجع إلى النهج النبوي، وتحسن تمثيل الإسلام من جديد.
إعادة بناء النموذج على المقاصد:
وإذا كانت مرحلة الراشدين رضوان الله عليهم قد امتازت بشيوع قيم العدالة والشورى والانتماء إلى قيم الدين ومفارقة قيم الجاهلية والعصبية القومية، ففي المراحل التالية غابت قيمة العالمية، وشاع التنافس بين القبائل والأمم، وتراجعت الخيرية، وقرئ القرآن وميراث النبوة أحيانا قراءة خصوصية وشعبوية وقومية, وقسمت الديار إلى ديار إسلام وديار حرب بعد أن كانت – في الحقيقة والواقع – تُقسَّم إلى أمة الإجابة وأمة الدعوة.
وحين أحس علماء المسلمين بخطر الفصام بين تعاليم الإسلام وواقع الحياة, تواصلت جهودهم لرتق الفتق ورأب الصدع وإعادة الاتصال بين الإسلام والمسلمين، ولتحقيق ذلك قاموا بأمرين:
الأول: بيان علل الأحكام وغايات الإسلام ومقاصد الشريعة بيانا علميا منظما، فبينوا أن لكل حكم وظيفة يؤديها وغاية يحققها ومقصدا – ظاهرا أو خفيا – يستهدفه من أجل جلب المصلحة ودفع المضرة.
الثاني: ترتيب الأولويات الشرعية, فوضعوا كل أمر فى مكانه من سلم المقاصد الشرعية؛ ضرورياتها، وحاجياتها، وتحسينياتها.
ولقد اشتهر بين العلماء أن الشريعة جاءت لجلب المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها؛ فحيثما كان ذلك، فثم شرع الله ودينه؛ وفق ضوابط جلب المصلحة وقوانين دفع المفسدة المقررة في كتب الأصوليين.
يقول الشيخ أبو بكر ابن القيم: “إن الله سبحانه أرسل رسله, وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط, وهو العدل الذى قامت به الأرض والسماوات, فإذا ظهرت أمارات العدل, وأسفر وجهه بأي طريق كان, فثم شرع الله ودينه”.
– ويقول الإمام أبو حامد الغزالى : “إن مقصود الشرع من الخلق: أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم ونسلهم”, وأضاف القرافي : “أعراضهم”.
وهو ما لخصه العلماء في عنوان “مقاصد الشريعة “.
استدعاء الفكر المقاصدي ارتبط بعلماء إصلاحيين مجددين:
وكان الاستدعاء الأبرز للفكر المقاصدي مرتبطا بعلماء إصلاحيين ومجددين وفترات نهضة وتطوير، وحسبنا أن الذي أحيا الاهتمام بالفكر المقاصدي عمومًا في عصرنا هو الإمام محمد عبده الذي كان عصره عصر تطوير ونهضة، فكان له الفضل في لفت الأنظار إلى الشاطبي وجهوده المقاصدية، ونفض التراب عن “الموافقات”، وطبعه وتدريسه والتوصية به، ثم تبعه على ذلك تلامذته الذين أسهموا بنصيب وافر في هذا المجال؛ أمثال ابن عاشور والفاسي والخضري وغيرهم.
وقد صُنِّف كتاب “مذكرة في حكمة التشريع الإسلامي، قسم العبادات” في عهد تطوير الأزهر وتعديل مناهجه – كما قال المؤلفان – بما يتلاءم مع فلسفة العصر وحاجة المجتمع([1])؛ حيث إن “البحث عن أسرار التشريع – كما جاء في الكتاب – كان وليد الحاجة إليه في العصر الحاضر، وفي العصور الأولى كان البحث مقصورًا على استنباط الأحكام والدفاع عنها، ودفع الشبهات والاعتراضات الواردة عليها، ولا يتحدثون عن الحكمة قصدًا، بل كانوا يذكرونها عرضًا”([2]).
كان نشاط الفكر المقاصدي مكثفا كذلك – كما يشهد تاريخه – في فترات المواجهة مع الأعداء والجهاد ضد المحتلين خلال مراحل تاريخية متعددة، وإنتاج العز بن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وابن عاشور وعلال الفاسي في هذا الشأن نماذج واضحة تؤكد هذه الدعوى، وهذا يؤسس لأهمية جديدة للمقاصد وما لها من وظيفة في تحرير الأرض ومقاومة العدو.
ارتبط الفكر المقاصدي أيضًا بفترات الغزو الفكري، وإثارة الشبهات، وفترات الضعف الحضاري الإسلامي حين تصبح الأمة المسلمة هي الطرف الضعيف في العالم، وهنا تتراوح ردود الفعل بين تقوقع وتخندق؛ حفاظًا على الهوية، وبين انفتاح ومبادرة عبر الاستنجاد بفلسفة التشريع الإسلامي والفكر المقاصدي لدحض الافتراءات، وإزالة الشبهات، وترسيخ الواضحات والكليات، وهذا يؤسس لدور جديد آخر للمقاصد في تحرير الأمة فكريًّا وعقديًّا، وأهميتها في حفظ هوية الأمة المسلمة([3]).
وإننا في عصرنا الحاضر لا حياة لنا ولا رجاء فينا ولا أمل لاستنقاذ أنفسنا وأمتنا والإنسانية كلها إلا بتحكيم مقاصد الشريعة وفكرها في حياتنا، سواء على مستوى الفرد أم الأسرة أم المجتمع أم نظام الحكم أم الأمة أم الإنسانية كلها.
([1]) مذكرة في حكمة التشريع الإسلامي قسم العبادات لأحمد محمد ندا وطنطاوي مصطفى: 5. وتجدر الإشارة إلى أن الأزهر تم تطويره أكثر من مرة، منها: 20 من محرم 1314هـ = 1 من يوليو 1896م؛ حيث صدر قانون تطوير الأزهر في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، ثم بدأت جامعة الأزهر في ثوبها المعاصر سنة 1930م مع قانون إصلاح الأزهر، حيث أُسست كليتان هما اللغة العربية والشريعة، ثم قانون رقم 103 لعام 1961؛ حيث أصبحت جامعة الأزهر تتكون من الكليات الآتية: كلية أصول الدين، وكلية الشريعة، وكلية المعاملات والإدارة، وكلية البنات الإسلامية، وكلية الهندسة، وكلية الطب، وكلية الزراعة.
([2]) راجع مذكرة في حكمة التشريع الإسلامي: 4. أصل الكتاب مجموعة من المحاضرات في حكمة التشريع الإسلامي قسم العبادات ألقيتْ على طلاب السنة الأولى الإعدادية بكلية الشريعة بجامعة الأزهر على حسب المنهج المقرر عليهم، وقد توخت الأسلوب المبسط المفهوم. راجع: مذكرات في حكمة التشريع الإسلامي قسم العبادات: 3. أحمد محمد ندا، وطنطاوي مصطفى. دار الطباعة المحمدية بالأزهر. القاهرة. بدون طبعة ولا تاريخ.
([3]) انظر ارتباط الفكر المقاصدي بهذه المعاني كتاب: مقاصد الأحكام الفقهية للدكتور وصفي عاشور أبو زيد: 95-99. سلسلة روافد. الكويت. الطبعة الأولى. 1433هـ. 2012م.
Leave A Comment