المصدر 
محمد إلهامي

ليس من جهة في العالم الآن تتبنى شيئا من إرث سيد قطب رحمه الله، إن سوط “دعم الإرهاب” مرفوع، وهو سوط لا يرحم، وكل جهة أو مؤسسة أو جماعة تود أن تعيش ولا تحب المشاكل!

ومع هذا فعند حلول ذكرى استشهاد سيد قطب تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بإحياء ذكراه ونشر مقولاته، وهو ما يسحب بعضا من وسائل الإعلام لمجاراة العمل الذي بدأه الشباب بلا ترتيب ولا تنظيم، فربما صنعت قناة تقريرا وسمحت أخرى بمداخلة هاتفية ونشرت أخرى اقتباسا، أمرٌ خجول لإبراء الذمة وذر الرماد في العيون! أمرٌ لا يليق بحال برجل من الوزن الفكري الثقيل، رجل اهتز له العالم الإسلامي يوم إعدامه، ورجل طوردت كتبه وأفكاره ولا تزيد مع الأيام إلا تألقا ولمعانا وحضورا!

ليس أقوى من فكرة حان وقتها، هكذا قال فيكتور هوجو!

والفكرة التي رددها الشهيد في كتاباته لا تزال متوهجة قوية لأن المأزق الذي قيلت فيه لا يزال قائما، الواقع أن العالم الإسلامي لا يزال يعاني تلك الأثقال الغربية التي تجعله محكوما مقهورا بأفكار مفروضة عليه، تنفذها سلطات مفروضة عليه أيضا! ولذلك فكل فكرة تؤصل للمقاومة ستظل متألقة متوهجة مثيرة للعواطف ملهبة للمشاعر!

وأعظم الأفكار قاطبة هي الأفكار الخالدة.. وليس ثمة شيء خلد ويخلد وسيخلد كالقرآن الكريم، كتابٌ تعهد الله بحفظه وصيانته، فلم يطرأ عليه تغير في حرف، ولم تستطع محاولة واحدة تثبيت تأويل منحرف لآياته! وهو كتاب انطلقت منه أمة وبُنيت عليه حضارة، وصار محميا بجيوش من العلماء والمفسرين الذين تتبعوا كل كلماته وحروفه بالتفسير والعناية والخدمة، وبعد هذا كله فلا يزال القرآن جديدا غضا طريا يأخذ منه الناس لأزمانهم كأنما نزل فيها!

وتلك قيمة سيد قطب: الرجل القرآني المجاهد!

إن كتاب الظلال ليس مجرد تفسير، ولا هي خواطر مفكر أديب كتبها عند شاطئ البحر أو في كهفه العلمي، إنه دستور المقاومة الكبير.. المقاومة المنطلقة من القرآن، المعتمدة عليه، المهتدية به!

ولذلك كان “الظلال” عدوا للاحتلال والاستبداد، وطاقة نور ولهب للأمة المقاومة المجاهدة.

إن لفظ “الحاكمية” الذي استعمله سيد قطب يعبر عن ذات المعنى الذي تقصده وتدور حوله ألفاظ “السيادة” و”مصدرية المعرفة” و”النطاق المركزي” و”المرجعية النهائية” و”المبدأ الواحد” و”المركز” في كتب الفلسفة والعلوم السياسية، إلا أنه ولكونه “لفظا قرآنيا” يجد طريقه مباشرة إلى قلب وعقل المسلم الذي لا يفهم طنطنات الفلاسفة والمتفلسفين. إن كل من ينادي بتطبيق الشريعة للخروج من “الجاهلية” يمثل مصدر خطر حقيقي على الأنظمة المستبدة وعلى نظام الطغيان العالمي رغم أنه لا يُدرك في أغلب الأحيان المعاني السياسية والحضارية الكبرى الكامنة خلف مطلبه البسيط “تطبيق الشريعة”!

إن المنادي بتطبيق الشريعة يريد الهرب من حالة “الجاهلية”، وهو المصطلح القرآني الآخر الذي أحياه سيد قطب ضمن مشروعه الفكري، ليعبر به عن حجم الانحراف الذي ينبغي على الأمة أن تواجهه وتنجو منه. لم يكن لسيد قطب أن يصل إلى هذا المعنى الواضح الذي يفهمه كل مسلم بسرعة ويسر لو استعمل أي لفظ آخر مما يكثر في كتب الفلسفة والعلوم السياسية. إن مصطلح “الدولة القومية الحديثة” يبدو كمصطلح ظريف لطيف يستتبع آلاف المقالات والكتابات في تحليله ووصفه وتكييفه شرعا.. بينما هو على الحقيقة مظهر من مظاهر “الجاهلية”، فالدولة التي هي مرجعية نفسها نقيض واضح للدولة الإسلامية التي مرجعيتها الإسلام!

لقد كتب مئات المستشرقين والمسلمين في إثبات تناقض نموذجي “الدولة الإسلامية” مع “الدولة القومية الحديثة”، لكن ليس ثمة كتاب منها كان قادرا على توصيل معنى التناقض للمسلم البسيط بيسر وسهولة كما يُستعمل لفظ “الجاهلية” في مقابل “الحاكمية” عند تفسير قوله تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون؟! ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون). وسيظل الخطاب الإسلامي نخبويا ما ابتعد عن المعجم القرآني، وهذا داء كثير ممن يوصفون بالنخبة الإسلامية.. يقولون كلاما يفهمه أعداؤهم أكثر مما يفهمه أنصارهم لابتعادهم عن ألفاظ القرآن.

ما كان لسيد قطب أن يسطر الظلال على هذه الشاكلة لولا أنه رجل حركة وعمل، رجل يعيش المعركة في واقعه ولا ينظر إليها بمنظار الفلاسفة أو من ثقوب الكهف العلمي، ولذلك ظل كتابه يحمل حرارة الأنفاس وغبار اللقاء ولهيب الاحتدام وصلصلة السيوف وقسوة المعاناة، وهو لهذا كتابٌ يستريح إليه وينهل منه كل مسلم يحمل هم الأمة ويعاني في معركتها. فيم لم تلق تفاسير المشايخ التي طُبعت بأموال الدول ولا عشر معشار ما لقيه “الظلال” من الحفاوة والدوام.

ولقد أثر القرآن في سيد قطب تأثيرا آخر، فالقرآن كتاب الأمة، وهو ليس كتاب مقاومة وجهاد فحسب، إنما هو منهج شامل ومنظومة كبرى، فلو أن سيد قطب عاش المعركة بعيدا عن القرآن واكتفى –مثلا- بكتب فقه الجهاد والتشويق له لما بلغ ما بلغ، لقد أعطاه القرآن اتساع النظرة وشمول الرؤية.. فمفسر القرآن ملزم أن يتأمل في آيات العبادات والمعاملات والمواريث والأخلاق والتاريخ والمخلوقات، وكل هذا فرع عن “التوحيد”: أصل الإسلام كله. ومن هنا اتسعت رؤية الشهيد في فهم نظام الإسلام، وإدراج الفروع تحت الأصول، وإدراج الأصول تحت الأصل الأكبر: التوحيد. فكان الظلال مشروعا فكريا حضاريا كبيرا.

وإن عقل الشهيد في فهم القرآن عقل جبار حقا، ولا يوازي عقله إلا أصالة قلمه.. لقد كان واحدا ممن جمع بين الحسنيين: قوة الفكرة وجمال القلم، ونادرا ما يجتمعان! ومن قرأ رائعته المدهشة “التصوير الفني في القرآن” رأى في القرآن جمالا غير مسبوق، وانفتح له من أبواب تذوق الآيات وفهمها ما لم يكن يدريه ولا يخطر له على بال.

قرأت في الظلال زمن المراهقة فكان يبهرني الأدب ولا يبلغ عقلي فهم الفكرة، أو قل: أفهم الفكرة البسيطة الساذجة في ظاهرها، قبل أن تمر السنين فيستطيع المرء أن يفهم الفكرة في سياقها وفي دلالاتها وضمن المشروع الكلي للشهيد.. ولذلك فلو غضضنا الطرف عن أفكار الشهيد في الظلال فسيظل الكتاب بنفسه تفسيرا غير مسبوق ولا مثيل له في بابه.. يستمتع به حتى من لم تعجبه الفكرة!

أما تهمة “تكفير المجتمعات” فتهمة لا أشغل نفسي بالرد عليها، فأحسن أحوالها أن تكون “قراءة فقهية لنص أدبي”، وأسوأ أحوالها أن تكون قراءة علمانية غرضها تشويه سيد قطب لا صيانة الإسلام من الغلو. ثم إن “المدونة الفقهية” التي اعتمدت عليها التيارات الغالية ليس من نتاج سيد قطب بحال، بل من نتاج من لا يُتهمون في العلم والفقه! ولم يكن سيد قطب فقيها ولا كانت ألفاظه ألفاظ الفقهاء، وما ضر صلاح الدين أن يصفه أبو شامة بأنه كان يتكلم في الفقه لكن بغير ألفاظ الفقهاء.


سيد قطب.. احتضنته الأمة وجرَّمتْه الأنظمة! والأمة أبقى من الأنظمة، والحر مُمْتَحَنٌ بأولاد الزنا!