العربي الجديد 

سيف الدين عبد الفتاح

تمثل اتفاقية سايكس بيكو ( 16مايو/ أيار 1916) منعطفا تاريخيا مهما في مسألة النهوض والتغيير والإصلاح في العالمين العربي والإسلامي، وقد أدى هذا الحدث الذي جرى بترتيب من دول خارجية، فهو اتفاقية سرية لتقسيم المنطقة العربية تم توقيعها بين كل من فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية، دورا خطيرا في تحديد مستقبل المنطقة، وقد تداخل الاتفاق مع مجموعة حوادث أخرى لا يمكن بأي حال إلا أن نعتبرها منظومةً مترابطةً فيما بينها، توالت أو تراتبت وأثرت تأثيرا كبيرا في مسألة النهضة، ومثلت عبئا عليها لا يمكن بأيّ حال إنكارها، وكان من أهم هذه الأحداث التي شكّلت حزمة بعضها سبقتها وبعضها ترافقت معها وبعضها تبعتها مثل الاتفاق الودّي بين فرنسا وبريطانيا في العام 1904، وكذلك ما سميت الثورة العربية الكبرى، والمحاولات الغربية آنذاك في مواجهة الدولة العثمانية باعتبارها رجل أوروبا المريض، أو ما أطلق عليه في ذلك الوقت المسألة الشرقية، والحرب العالمية الأولى، وكذلك وعد بلفور 1917، ومؤتمر سان ريمو 1920.

وبشكل عام، لا يمكن إغفال السياقات التي جرت فيها كل هذه الأحداث، ولكنها، في حقيقة الأمر، مثلت في مجملها مسارا ارتبط بالحقبة الاستعمارية (مع تحفظ الكاتب على كلمة استعمار للدلالة على هذه الظاهرة أو تلك الحقبة) التي نشأت من قبل واستمرّت فيما بعد. في واقع الأمر، صادفت تلك الحقبة الاستعمارية أمرا آخر لا يقل أهمية، وهو النشأة المشوّشة والمشوّهة للدولة القومية في منطقتنا العربية. كانت هذه النشأة في ذلك الوقت تعبيرا مترافقا عن هذا التنازع الخطير وتلك الحالة التي استقرّت في ذلك الوقت على زعزعة سيطرة الدولة العثمانية على معظم دول المنطقة العربية، وإرادة الغرب في عملية التطويق الكبرى للدولة العثمانية، وأن تقوم الدول والكيانات العربية المختلفة بتمرّدات مخطّط لها تسهم في إضعاف الدولة العثمانية وتحقّق أهداف الخطة الغربية، مستفيدة في ذلك من الترتيبات الجديدة التي صنعتها الحرب العالمية الأولى ضمن تصوّراتها السابقة بشأن “المسألة الشرقية” وتركة “الرجل المريض”.

ضمن هذا التحليل، يمكننا أن نرصد الدور الذي قامت به اتفاقية سايكس بيكو من عمليات التقسيم، وفي رسم حدود مناطق النفوذ للدول الكبرى آنذاك، وما أعقب ذلك من مطالبات بالاستقلال وحركات التحرّر الوطني في معظم دول المنطقة. والمفارقة المهمة في هذا السياق أشار إليها تيموثي ميتشل في كتابه “استعمار مصر” (ترجمة بشير السباعي وأحمد حسّان، دار سينا للنشر، القاهرة 1990، دار مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2013)، وهي أن الدولة التي نشأت في عالمنا العربي لم تكن تماثل الدول الغربية المعاصرة لها في ذلك الحين، ولكن هذه الدولة في عالم العرب والمسلمين ورثت الدولة الاستعمارية بكل أعبائها، وأدواتها وأساليبها في السيطرة والتحكّم والهيمنة، خصوصا في الحالة المصرية، وهو ما قد يشير إلى حقيقة ما أسمي الاستقلال الذي لم يكن، في جوهره، إلا استمرارا للعلاقة بالدولة المستعمِرة ولكن بأشكال أخرى. وعلى هذا، بقيت هذه الدول مرتبطة بهذا الاستعمار في علاقات اقتصادية وثقافية مثلت امتدادا لتلك الحقبة الاستعمارية المباشرة، وهنا لا بد أن نذكر بشعار الاستعمار في ذلك الوقت الذي أورده جمال حمدان في كتابه “الاستعمار واستراتيجية التحرير” (دار الهلال، القاهرة، 1983) “ابق لتنهب”، فقد جرى تغييره لاحقا ليواكب تطور العلاقات مع الدول العربية الحديثة ليصبح “ارحل لتبقى”. هكذا تم اختراع أشكال جديدة للاستعمار ترسّخ النشأة المشوّهة والمشوّشة للدول القومية المستقلة في الوطن العربي وفي عالم المسلمين.

نجحت “سايكس بيكو” الأولى بنتائجها الخطيرة في ضمان استمرار تأثيرها وإعادة إنتاجها في أشكال جديدة تلائم العصر وتستفيد من منتجها المتمثل في الدولة القومية العربية المشوهة والمشوّشة

ومن هنا، كان ذلك أمرا مهما ضمن الاعتبارات التي تتعلق بـ”سايكس بيكو” وتأثيرها على مسألة النهوض بما ترك لها من أعباء، وما طرح عليها من أسئلةٍ خرجت من رحم ذلك الاضطراب وما صاحبه من حيرة في تلك الفترة، وقد بدت تلك الإشكالات التي طُرحت في نمطين مهمّين: الأول التجزئة والتقسيم، والثاني يتعلق بالتبعية التي نشأت من طبيعة العلاقات بين الدول المستعَمرة والمستعِمرة سابقا. هنا لا بد أن نؤكّد أهمية هذه الإشكالات التي تضمّنت جملة من الأسئلة الخاصة بمسألة النهوض والعلاقة مع الغرب، ما بين سؤالٍ يتعلق بالدول الاستعمارية الغربية، التي استعمرت هذه البلدان، وكذلك الأمر الذي يتعلق بخطط النهوض ونماذج التقدّم، وما يمكن أن تتوسّله تلك الدول في سياق بلوغها النهضة وعمليات الإصلاح. أضاف هذا التداخل اضطرابا آخر جديدا في العلاقة مع الغرب، وبين كيف أنها شكلت منطقة استقطاب جديدة بين النخب المثقفة حول كيف تكون النهضة وكيف يشكّل الغرب جزءا بل نموذجا يُحتذى به في هذه المسألة.

ومن الممكن أن نتابع تأثيرات “سايكس بيكو” على دول المنطقة واستمرار هذه التأثيرات، بل إنها اتخذت صورا وأشكالا متنوعة إلى الحد الذي دفع بعضهم إلى الحديث عن “سايكس بيكو جديدة”، مشيرين إلى عمليات واتفاقات مستحدثة لإعادة فك منطقة الشرق الأوسط وتركيبها في تشكيلاتها الجديدة، في ظل استمرار الدولة القومية المشوّهة في المنطقة، وفشلها في استيعاب تطورات شعوبها وإخفاقها في تبنّي مشاريع النهوض والتغيير والإصلاح. وبدلا من أن تعيد تصحيح خطئها التاريخي في القبول بسايكس بيكو الأولى، تورّطت في صنع “سايكس بيكو جديدة” وقبولها من خلال استدعاء القوى الدولية والإقليمية للتدخّل فيها ودعمها في مواجهة شعوبها، ولم تجد تلك القوى غضاضة في أن تعيد رسم خرائط النفوذ والموارد والموانئ، بما يمكّنها من صناعة أشكال جديدة من الاستعمار تلائم اللحظة الراهنة. وهكذا نجحت “سايكس بيكو” الأولى بنتائجها الخطيرة في ضمان استمرار تأثيرها وإعادة إنتاجها في أشكال جديدة تلائم العصر وتستفيد من منتجها المتمثل في الدولة القومية العربية المشوهة والمشوشة.

اتخذت تأثيرات اتفاقية سايكس بيكو صوراً وأشكالاً متنوعة إلى الحد الذي دفع بعضهم إلى الحديث عن “سايكس بيكو جديدة”

يأتي رصد هذه المنعطفات التاريخية هنا من دورها الممتد وتأثيرها اللامحدود على تاريخنا، نحن العرب، ونهضتنا ومشاريعنا الإصلاحية والتغييرية، فهذه الأحداث لا تزال مؤثّرة، ومن المهم الوعي بخطورتها وبدورها في مداخل التفسير والتحليل. وكذلك يمكننا القول إن تلك المنعطفات قد أفرزت قدرا جديدا من الأسئلة وتعقيدات الإجابة عليها ضمن هذه الحقب التي تداخلت، والأطراف التي تعاملت فيها ومعها، وهو ما كان بعد ذلك موضوعا للاستقطاب في الإجابة عن سؤال “لماذا تخلف المسلمون وتقدّم غيرهم؟”؛ فقد كان هذا السؤال نموذجا لذلك الالتباس الذي فرضته هذه الحقبة ضمن سياقاتٍ تاريخيةٍ أكّدت مسارين مهمين؛ مسار التفسير الخلدوني الذي يتعلق بأن “المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب في كل شؤونه وأنظمة حياته وأساليبه وأفكاره”، والمسار الثاني الذي سوّغ لذلك باعتبار أن نموذج التقدم الغربي هو الأمثل الذي يجب أن يُحتذى، إيمانا بذلك الأمر الذي يتعلق بأفكار مثل الحداثة والتحديث والتقدّم. وفي كل الأحوال، ظلّ هذان المساران ينتجان مسارات أخرى في التفكير والتدبير ومناهج التغيير.

مرّة أخرى، نحن أمام منعطفٍ لحدث تاريخي كان الفاعل فيه خارجيا، بما تمثله حضارة الغرب الصاعدة آنذاك، والتي اتّخذت أشكالا تتعلق بالحقبة الاستعمارية. ومثّل ذلك الحدث وآثاره الكبرى ليس فقط على عالم الأفكار، ولكن كذلك على تصوّر أساليب النهوض ونماذجها؛ وهو أمر حريٌّ بنا أن نتفحصه حينما يتعلق الأمر بمسألة النهوض مجدّدا وتأثيرات الخارج في طرح إشكالات جديدة تتعلق بهذه المسألة. ونؤكد كذلك كيف أنه كانت لمعظم هذه المنعطفات أبعاد خارجية، إلا أنه لا يمكننا بأي حال أن نتحدّث عنها بمعزل عن القابليات الداخلية التي جعلتها تهيمن وتتحكّم، ليس فقط في مسارات الحركة والممارسة، ولكن في مسارات التفكير والتغيير.