د.وصفي أبو زيد

 

في تراثنا السياسي الإسلامي وفي عصور الخلافة المتتالية نجد تحذيرا واضحا من الدخول على السلاطين والحكام، وأن من دخل عليهم افتتن، وباع دينه بدنياه حتى يبيع دينه بدنيا غيره .. وانتشرت هذه المقولة في تراثنا السياسي الإسلامي لتكون قضية مسلمة وحكمًا عامًّا في حرمة الدخول على الحكام حتى ألف السيوطي رحمه الله تعالى كتابا أسماه: “ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين” أورد فيه مقولات تقطع بمنع دخول العلماء على الحكام! حتى قال بعدما أورده من أدلة : (ذهب جمهور العلماء من السلف، وصلحاء الخلف إلى أن هذه الأحاديث والآثار جارية على إطلاقها سواء دعوه إلى المجيء إليهم – أي السلاطين – أم لا، وسواء دعوه لمصلحة دينية أم لغيرها. قال سفيان الثوري: « إن دعوك لتقرأ عليهم: قل هو الله أحد، فلا تأتهم » رواه البيهقي .. ) ا.هـ.([1]).

ونحن لا نسلم بهذه المقولة على إطلاقها، ولا نأخذها على عواهنها، فينبغي حمل هذا المنع على ظروف خاصة، وحالات بعينها، لا تمثل حكمًا مطردا، ولا نهيا عاما يحرم تعامل العلماء مع الحكام، ويحصر تعاملهم معهم عن بعد وفي نهيهم والإنكار عليهم.

صحيح أن الحكام في كل عصر استخدموا علماء الدين في تمرير ما يريدون، وفي تسويغ ما يفعلون، وفي إضفاء غطاء شرعي على جرائمهم ومخالفاتهم في تعطيل مصالح الخلق ومخالفة الحق، لكن هذا لا يكون مسوغًا لإعطاء حكم عام انطلاقا من وقائع بعينها في عصور بعينها وحلات بعينها وحكام بأعيانهم؛ إذ عندنا في تاريخنا صور مشرفة لتعامل العلماء مع الحكام واستقامتهم بهم وتقويمهم بنصائحهم تعدل النماذج الأخرى الفاسدة الفاجرة!

السلطان الحق من نعم الحق على الخلق

والسلطان الحق نعمة من نعم الله تعالى على عباده، ولهذا فإنه إذا تولى بحق فلا غنى له عن نصيحة العلماء وتوجيههم ومشورتهم حتى قال ابن عطية: “والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه”([2]).

والسلطان الحق تقوم به حدود الله، ويُحرَس به الدين، وتساس الدنيا به وفق الدين؛ ولهذا فإن الله يزع به ما لا يزع بالقرآن، ويمحو به ما يشاء ويثبت بما لا يمحوه بشيء آخر، ولا ننسى حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله”، وذكر منها: “إمام عادل”([3])؛ ولهذا وجب التفريق عند الحديث عن هذه القضية بين سلاطين العدل وسلاطين الجور، وبين علماء السلطان وعلماء القرآن.

وجوب التفرقة بين سلاطين العدل والجور وبين علماء السلطان والقرآن

فنحن مع سلاطين العدل لا يمكن أن نقول بحرمة الدخول عليهم بل يجب تقديم العون والمشورة لهم والنصيحة الصادقة في كل أمر يحزبهم وينزل بهم، وهذا لا يكون إلا من علماء الحق والصدق.

أما علماء السلاطين فهؤلاء ربما يضلون الحكام، ويزينون لهم السوء، ويوشون عندهم بالعلماء الصادقين والدعاة الربانيين كما تواترت بذلك قصص ومواقف في التاريخ القديم والحديث سواء؛ ولهذا يجب تحذير هؤلاء الحكام من إدخال علماء السلاطين والنفاق عليهم!.

أما حكام السوء وسلاطين الظلام والضلال والقتل والإفساد في الأرض فهؤلاء لا يدخل عليهم العالم إلا منكرًا، ناهيًا لهم عن مسلكهم، ومحذرًا لهم من مغبة أفعالهم، وهذا لا يكون إلا من علماء القرآن العاملين الصادقين.

أما علماء السلاطين فيزينون لهم أفعالهم ليروها حسنة، ويشرعنون لهم القتل والفساد والإفساد والجرئم التي يقومون بها، بل يقومون بتحريض هؤلاء الحكام الطغاة على علماء الحق ودعاة الصدق ليفتكون بهم وينزلون عليهم غضبهم وسخطهم وعقابهم حين يتلقى علماء الحق ذلك حسبة لله في رضاء واحتساب غير مبالين بغضب الحكام وسخطهم، وإنما يسعون لرضا الله وفضله، شعارهم قول رسولهم صلى الله عليه وسلم: “إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي”!.

خطأ تنزيل نصوص طاعة السلطان وفضله على سلاطين الجور

ومن الخطأ البين أن ننزل النصوص الشرعية الآمرة بطاعة الحكام ما داموا يطيعون الله ورسوله على أمراء السوء وسلاطين الفُجر والفساد، فهذا خطأ في مناط النصوص حمل كثيرا من العلماء قديما وحديثا على التحذير من الدخول على الحكام والنهي عن ذلك.

ولهذا قال الإمام الجمال يوسف بن عبد الهادي الحنبلي رحمه الله تعالى (ت:909هـ) بعد سرده لأحاديث فضل السلطان، وطاعته: “العجب من بعض المُتفقِّهة الفجَرة! يذكرون هذه الأحاديث لكثيرٍ من الظلَمة، ممن انغمس في الظلم، وعامَ فيه وسبَح، وأخذ أموال الناس من غير حِلِّها، وقتل النفسَ الحرامَ أكثر من ألفِ مرة بغير حقّ، واستحلَّ أموال الناس، ودماءَهم وأعراضهم، ويُزيِّن له أنه عادل، ولولا أنت ولولا أنت! ليتوجَّه بذلك عنده، ويُنفق سوقَه، فلا كثَّر الله في المسلمين مِن أمثالهم”([4]).

وقال أيضًا : “فالعجبُ كلَّ العجب من كلب نجس لا دين له ولا عقل، ومع ذلك يزعم أنه فقيه، ويدخل على الظلمة الفجَرة في القرن التاسع والعاشر، ويُزيِّن لهم، ويُحسِّن لهم أنهم على العدل، وأنهم من العادلين! مع قتل النفس المُحرمة، وعدم توقِّي دماءَ المسلمين وأموالَهم وأعراضهم، ومع ذلك منهم مَن يُزين لهم ذلك، وأنه خير، وأن بعض أئمة الإسلام أباح قتل الثُّلثين في صلاح الثُّلث، ونحو ذلك..! وكلُّ ذلك زورٌ وبهتان، وافتراءٌ على الأئمة، لا حقيقة له ولا أصل، ومَن عنده إيمانٌ ومعرفة؛ يعلم أنه لا يَحِلُّ قتلُ أدنى أدنى نفسٍ مُسلمة لصلاح أحد، كائنًا من كان، ولو اجتمع أهلُ الأرض على قتْل نفسٍ مسلمة بغير حق أكبَّهم الله به في نارِ جهنم”([5]).

هؤلاء الحكام الظلمة واجب العلماء نحوهم هو الإنكار وليس المداهنات في دين الله أو المجاملات على حساب شريعته، فعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنها ستكون أمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن لا إيمان بعده”([6]).

إذ المجاملات والمداهنات تعمل على توسيع مساحات الطغيان وتمكين دوائر الفساد؛ ولهذا ربط أبو حامد الغزالي بين فساد الحكام وفساد العلماء فقال: “ إنما فسدت الرعية بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفا من إنكارهم”([7]).

 

([1])تحذير الخواص من أكاذيب القصاص ويليه ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين: 184. دار الكتب العلمية

([2])المحرر الوجيز: 1/534. دار الكتب العلمية.

([3])رواه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي هريرة.

([4])إيضاح طرق الاستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة لابن عبد الهادي: 123. دار النوادر. سوريا. 1432هـ.

([5])إيضاح طرق الاستقامة: 127.

([6])رواه البزار في مسند 1896.

([7])إحياء علوم الدين: 2/ 150. دار المعرفة.