د.وصفي أبو زيد
نماذج مشرفة من التاريخ
وقد حفظ لنا التاريخ نماذج مشرفة من العلماء الأحرار ضد سلاطين الجور، ومن ذلك ما أورده الإمام الذهبي من قصة إنكار الأوزاعي على السفاح قال: حدثنا الأوزاعي ، قال : بعث عبد الله بن عليإلي ، فاشتد ذلك علي ، وقدمت ، فدخلت ، والناس سماطان فقال : ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه ؟ قلت : أصلح الله الأمير ! قد كان بيني وبين داود بن علي مودة . قال : لتخبرني . فتفكرت ، ثم قلت : لأصدقنه ، واستبسلت للموت ، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث الأعمال وبيده قضيب ينكت به ، ثم قال : يا عبد الرحمن : ما تقول في قتل أهل هذا البيت ؟ قلت : حدثني محمد بن مروان ، عن مطرف بن الشخير ، عن عائشة ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ” لا يحل قتل المسلم إلا في ثلاث . . . ” . فقال : أخبرني عن الخلافة ، وصية لنا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ فقلت : لو كانت وصية من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما ترك علي – رضي الله عنه – أحدا يتقدمه . قال : فما تقول في أموال بني أمية ؟ قلت : إن كانت لهم حلالا ، فهي عليك حرام ، وإن كانت عليهم حراما ، فهي عليك أحرم . فأمرني ، فأخرجت. قلت – يعني الذهبي – قد كان عبد الله بن علي ملكا جبارا، سفاكا للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمر الحق كما ترى، لا كخلق من علماء السوء الذين يُحسِّنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقا – قاتلهم الله – أو “يسكتون مع القدرة على بيان الحق”([1]).
ولما علم الإمام أحمد بإدخاله على المأمون جثى على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: (سيدي غرّ حلمُك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم إن يكن القرآنُ كلامَك غيرَ مخلوق فاكفنا مؤنته) فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل. قال الإمام أحمد: (ففرحنا) ([2]).
أما سلطان العلماء العز بن عبد السلام فله مواقف مشرفة في هذا المقام تذكر فتشكر، من ذلك:
**حين أنكر على حاكم دمشق “الصالح إسماعيل” تحالفه مع الصليبيين وتنازله لهم عن بعض المواقع، وسماحه للناس ببيع السلاح للإفرنج، فأفتى الشيخ بتحريم ذلك كله، وأعلن موقفه على المنبر، فأمر الحاكم بعزله واعتقاله، ثم رأى أن يستميله فأرسل إليه رسولاً يقول له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتُقَبِّل يده!. فقال الشيخ: “والله ما أرضاه أن يقبّل يدي، فضلاً عن أن أقبّل يده. يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به“. فقال رسول الملك: قد رُسِمَ لي أن توافق على ما يُطْلَبُ منك، وإلا اعتقلتك! فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم.
**ومن ذلك أيضا بيعه لأمراء المماليك الذين كان يستعملهم الملك نجم الدين في خدمته وجيشه وتصريف أمور الدولة، فقد أبطل “العز” تصرفاتهم، لأن المملوك لا ينفُذُ تصرُّفُه شرعاً. وقد ضايقهم ذلك، وعطّل مصالحهم، فراجعوه فقال: لابد من إصلاح أمركم بأن يعقد لكم مجلس فتُباعوا فيه، ويردَّ ثمنكم إلى بيت مال المسلمين، ثم يحصل عتقكم بطريق شرعي… فلما سمعوا هذا الحكم ازدادوا غيظاً وقالوا: كيف يبيعنا هذا الشيخ ونحن ملوك الأرض؟.
وثار نائب السلطان وذهب في جماعة من الأمراء إلى بيت الشيخ يريدون قتله، فلما رآهم ابنه فزع وخاف على أبيه، فما اكترث الشيخ، بل قال: “يا ولدي، أبوك أقلُّ من أن يُقتل في سبيل الله” أي إن من يُقتَل في سبيل الله يكون على مرتبة عالية عند الله، لم أَبْلُغْها!. وغضب الملك نجم الدين أيوب من هذه الفتوى وقال: ليس هذا من اختصاص الشيخ، وليس له به شأن!. فلما علم “العز” بذلك عزل نفسه عن القضاء، وقرر العودة إلى الشام، فتبعه العلماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان. وجاء من هَمَس في أذن الملك: متى ذهب الشيخ ذهب مُلكُك. فخرج الملك مسرعاً ولحق بالشيخ، وأدركه في الطريق وترضّاه، ووعده أن ينفّذ حكم الله في المماليك كما أفتى الشيخ. فرجع العز ونفّذ الحكم!.
وموقف ثالث لسلطان العلماء؛ حيث كان مع الملك نجم الدين أيوب نفسه. ذكر السبكيّ في طبقاته أن الشيخ عز الدين طلع إلى السلطان في يوم عيد، إلى القلعة (في القاهرة) فشاهد العسكر مصطفّين بين يديه، والأمراء تقبّل الأرض أمامه! فالْتَفَتَ الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب، ما حُجّتك عند الله إذا قال لك: ألم أُبَوِّئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى ذلك؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات! فقال: يا شيخنا هذا من أيام أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون؟! وقد أمر السلطان بإقفال الحانة فوراً. ثم سأل الشيخَ أحدُ تلامذته: أما خفتَ السلطان وأنت تخاطبه بهذا؟! فقال الشيخ: استحضرتُ هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقطّ!” ([3]).
***
والخلاصة أن هذا يبين لنا بجلاء أن المقولة التي شاعت في تراثنا السياسي حتى استقرت بحرمة الدخول على الحكام هي مقولة غير مسلمة، ولا يمكن الأخذ بها باطراد، فيجب التفريق بين حكام الحق والصدق والعدل الذين يجب عونهم وتقديم المشورة الحقة والنصيحة المخلصة لهم، والذين وردت النصوص بفضلهم ومكانتهم، ويجب على هؤلاء الحكام ألا يُدخلوا علماء النفاق عليهم .. أما علماء الجور فهؤلاء لا يمنع الدخول عليهم كذلك، بل إذا أتيح فهي فرصة للعلماء الربانيين للإنكار عليهم والنصح لهم – والدين النصيحة – وإقامة الحجة عليهم، أما علماء السلاطين فهؤلاء يقومون بدور ” التيس المستعار” للحكام: ينافقونهم، ويبررون لهم انحرافهم، ويشرعنون لهم جرائمهم .. ومن رحمة الله تعالى أنه لم يُعدم تاريخنا من نماذج مشرفة قدمت النصح لحكام الجور، وصدعت بالحق وقالت الصدق، وما أحوجنا لهم في عصرنا وفي كل عصر، وهم لا يخلو منهم جيل ولا مكان بحمد الله ولطفه، وما أصدق قول الشاعر:
إن الذي خلق الحقيقة علقمًا ** لم يُخلِ من أهل الحقيقة جيلا
([1])سير أعلام النبلاء: 1497-1498. تحقيق شعيب الأرناؤوط والعرقسوسي. مؤسسة الرسالة.
([2])البداية والنهاية: 10/366. دار إجياء التراث العربي 1896.
([3])راجع هذه المواقف وغيرها في كتاب د. محمد الزحيلي: ” العز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك الداعية المصلح القاضي الفقيه الأصولي المفسر”. ضمن سلسلة أعلام المسلمين رقم 39. دار القلم دمشق.
Leave A Comment