د. وصفي أبو زيد
الحديث عن فكرة أو تصرف دون استصحاب السياق الذي نعيشه هو خطأ قطعي؛ إذ السياق حاكم للمعنى، ومرشد للمقصد، وحارس من الفهم الخاطئ .. فأين نعيش وما السياق الذي نعيش فيه الآن؟
السياق الذي نعيشه
إننا نعيش مرحلة تحول حضاري تمر بها الأمة والعالم، وتنتفض فيها الشعوب وتثور على طغاتها وإنْ تعثرت ثورتها كما يحدث لكل الثورات، وهذه الانتفاضات الشعبية الحرة سوف تتمخض عن استقلال وامتلاك إرادة وتحرر من عملاء الاحتلال بعد أن تحررت البلاد من الاحتلال نفسه شكليا ..
هذه المرحلة تتفكك فيها تكتلات، وتتلاشى فيها أنظمة، وتتغير فيها خريطة العالم، وسيعقبها – كما هي سنة تاريخ الاجتماع البشري – تشكلات جديدة، وتكتلات مختلفة ينشئها من يملك الوعي الشامل، والرؤية الكاملة، والقوة والأدوات والإرادة.
ومن ثم يجب أن تكون هذه هي البوصلة الحاكمة لأي تصرف، والموجهة للتعاطي مع أي فكرة أو خطوة؛ استصحابا لهذا السياق الذي لا ينكره عاقل، ويدركه كل من له اطلاع محدود على تاريخ الثورات، وفترات التحول الحضاري والظواهر الكبرى.
المصالحة مع من والتفاوض مع من؟
ثم إنني متحفظ على إطلاق كلمة (مصالحة) حين تكون مع طاغية مجرم منتهك لحرمات الدين والنفس والمال والعرض، والصواب – في نظري – أن تسمى (تفاوض)، وإنما المصالحة تكون بين الإخوة الذين يوالي بعضُهم بعضًا، قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: ١]. قال ابن كثير في تفسير الآية: (أَي: اتَّقُوا اللَّهَ فِي أُمُورِكُمْ، وَأَصْلِحُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَلَا تَظَالَمُوا وَلَا تَخَاصَمُوا وَلَا تَشَاجَرُوا؛ فَمَا آتَاكُمُ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ خَيْرٌ مِمَّا تَخْتَصِمُونَ بِسَبَبِهِ). وقال عز شأنه: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: ١٠].
قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسيرها: (ولقد أمر الله ورسوله بالقيام بحقوق المؤمنين، بعضهم لبعض، وبما به يحصل التآلف والتوادد، والتواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك: إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها وتدابرها، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم .. ثم أمر بالتقوى عمومًا، ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى الله، الرحمة، فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ وإذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا والآخرة، ودل ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة).
فلا مصالحة على إسالة الدماء، ولا إزهاق الأرواح، ولا عذابات المعتقلين والمطاردين، ولا تسامح مع من جرَّف الوطن سياسيًّا، وخرَّبه اقتصاديًّا، ودمر بنيته اجتماعيًّا؛ فجعل أهله ﴿شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: ٤].
الواجب هو امتلاك الأدوات، والاستمرار في طريق الأمة التي تريد امتلاك إرادتها، والتخلص من طغاتها، والتحرر من قيود المجرمين لتعيش في حرية وأمن كما يليق بالإنسان.
التفاوض وأوراق القوة
ثم إن أردتَ أن تجري تفاوضا أو تسوية أليس مما اتفقت عليه العقولُ في المفاوضات أن تكون لديك أوراق قوة تفاوض بها وعليها؟ فأين أوراق القوة التي معك؟ وما الحاجة التي تحمله هو على قبول التسوية؟ وإن كانت لديه هو حاجات لاستتباب حكمه، فهذه نقطة عنده هو، ولكن السؤال المطروح: أين نقاط القوة التي تمتلكها أنت، وأين ما عندك مما يمثل له إزعاجا ويطلب منك أن تأتي له للتفاهم والتفاوض؟!
ثم هل طرح هو أية نوع من أنواع المفاوضات؟ أو صرح في أي تصريح أو كلمة أو أي مشهد تحدث فيه بأهمية هذا الإجراء، أو حتى مهَّد له بإشارات وإيماءات هنا أو هناك؟ فكما هو معروف إذا كان هناك قرار ينتوي النظام أخذه فلابد له من تمهيد إعلامي وسياسي في الخطابات المتنوعة، وهو ما لم يحدث، فلماذا نهرول نحن دون إلجاء الطاغية، ولماذا نعري أنفسنا ونقول له (بالله عليك هل من مصالحة؟!)، ثم نضع شروطا لـ “المصالحة”، وكأنهم هم الذين طرحوها وطلبوها، سبحان مثبت العقول: هل نكلم أنفسنا ونرد على أنفسنا؟ أم نطلب إلى أنفسنا ونرد على أنفسنا؟!
ستقول لي: إن هناك تواصلا من أطراف جهة النظام، وقد تواصلوا معنا من أجل ذلك: والرد بكل يسر إذا كان التواصل سرا فلماذا تعلنه على الفضائيات وفي الحوارات، أليس من الحنكة أن يظل التواصل سرا حتى يتم بشكل مناسب يحقق المصلحة العامة، هذا إذا كانت عندك أوراق قوة أصلا لهذا التفاوض؟!.
البيت الداخلي والسياسي أولا
ثم – وهو الأهم من هذا كله – من أراد أن يجري تفاوضات وتسويات أو “مصالحات” أليس من بدائه العقول أن تسوي بيتك الداخلي أولا، وترأب الصدع الحاصل فيه، وتعمل على تقويته واستعادة عافيته وتعزيز مناعته التي انهارت حتى ركب البدنَ أمراضٌ لا علاج لها إلا العلاج الجذري؟ كيف تطلب من عدوك مصالحات وأنت ترفض وتستنكف محاولات ونداءات المصالحة بينك وبين من أكلوا معك وشربوا معك وتعرضوا للأذى معك؟!
ثم أليس من بدائه العقول وألفبائيات إجراء هذا التفاوض أو “المصالحة” أن تسوي بيتك السياسي من الطيف الواسع، ومن المشارب المختلفة التي تجمعك بهم الثورة على هذا الطغيان، لتتقوى الجبهة، وتتوحد الجهود، وتتعزز القوة، ويتماسك المجتمع؛ ليرضخ له الطغاة، ويُلجأوا إلجاء إلى هذا الإجراء بضوابطه التي تحقق المصلحة وتنتزع الحقوق وتحاكم المجرمين الخونة؟!
قبل أن تنادي بما تنادي به لابد أن تمتلك الأدوات، وأن تصلح بيتك الداخلي، وتنسق بيتك السياسي من ألوان الطيف الواسع، وتحقق مكاسب على الأرض، وإذا لم تنقضّ على الطاغية وتقتلعه من جذوره فانتظر نداءه– إن شاء – حين يستغيث بك للتسوية أو التفاوض، وأي نداء منك قبل تحقيق ذلك فلا يقول به إلا “من قلع مخه من رأيه” على حد تعبير أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي، ومن يصر على الدعوة لـ “مصالحات” من هذا النوع قبل ما سبق فسوف يتجاوزه الواقع وتلفظه الأجيال ويقيض الله لهذه الأمة من يحرر إرادتها ويبعث نهضتها ويبني حضارتها ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: 89].
Leave A Comment