القوة في السياسة الشرعية 3
بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
عناصر القوة ومجالاتها
تحدث بعض علمائنا قديما عن القوة وأنواعها ومفاهيمها ومجالاتها؛ فهذا الإمام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية يرحمه الله، يقول: والقوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمْي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك، كما قال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا ] وفي رواية : [ فهي نعمة جحدها ] رواه مسلم. والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام ، ولأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة] رواه أهل السنن. والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما سواء كان خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهو ظاهر ([1]).
وتحدث الأستاذ الشيخ حسن البنا عن أنواعها ودرجاتها فقال: أول درجة من درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان, ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط, ثم بعدهما قوة الساعد و السلاح([2]).
ويتنوع الحديث عن أنواع القوة وعناصرها ومجالاتها بحسب الوجهة التي نتجه إليها، أو الزاوية التي ننظر منها، أو المنطلق الذي ننطلق منه.
أولا: فهي بالنظر إلى الفردية والجماعية، تنقسم إلى:
قوة الفرد وقوة الأمة:
فقوة الفرد هي قوة تتصل بالفرد وتكوينه المتنوع، تشمل قوة العقل وقوة النفس وقوة البدن، فقوة العقل تعني تحصيل العلم الدائم وتنمية العقل بمهاراته المختلفة، والحفاظ على هذا بالتعرف الدائم إلى الحقائق، وإلى إثبات القضايا والأفكار وفق قول الله تعالى: “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” . البقرة : 111. وقوله: وقوله: “قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا”. سورة الأنعام: 148.
وقوة النفس أو الروح تعني تقويتها بالعبادات المتنوعة والشعائر المؤثرة التي جعلها الله وسائل لتنمية الروح وتزكية النفس وترقيق القلب، فقوة الإيمان مصدر شجاعة خارقة للعادة بحيث يفرح المؤمن بالموت لأنه يوصله إلى ربه ، كما أنها تفجر قلب المؤمن بأنواع من المعرفة والحكمة بما لا نظير له في ثمار قوة أخرى.
وقوة البدن تشمل تقويته بما شرعه الله تعالى حتى يتأهل ليقوم بفرائض الله ويؤدي واجبات الشرع ويحقق المقاصد المشروعة من خلقه، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في بيان قصة أمة مجاهدة تحفزت للنهوض بعبء النضال في سبيل حريتها واستقلالها وتكوين نفسها, فاختار الله لها زعيما قوي الفكر وقوي الخلق, وجعل من أركان نهوضه بعبئه قوة بدنه, فذلك ما حكاه القرآن الكريم عن بني إسرائيل في تزكيته طالوت : (قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة:247) .
ولقد شرح رسول الله هذا المعنى في كثير من أحاديثه , وحث المؤمنين على المحافظة على قوة أبدانهم , كما حثهم على قوة أرواحهم , فالحديث الصحيح يقول : (المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف)([3]) ويقول (إن لبدنك عليك حقا)([4]) . ولقد بين رسول الله للأمة كثيرا من قواعد الصحة العامة وبخاصة في علم الوقاية , وهو أفضل شطري الطب فقوله صلى الله عليه وسلم : (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع)([5]) وتحريه فيما يشرب من ماء , وفي الحديث: (كان يستعذب الماء)([6]), ونهيه عن البول والتبرز في المياه الراكدة , وإعلانه الحجر الصحي على البلد المطعون وأهله , فلا يتركونه ولا ينزله غيرهم , وتحذيره من العدوى وطلب الفرار من المجذوم , وأخيرا عنايته بكثير من فروع رياضة البدن كالرمي والسباحة والفروسية والعدو , وحث أمته عليها وعلى العناية بها.
وقد وضع الشرع تدابير لهذا كله بما يوجد العقل الراشد، والنفس الزاكية، والبدن القوي، وما يعمل على حفظها واستمرارها محفوظة قوية باقية.
***
وأما قوة الأمة فالمقصود بها أن تصير مرهوبة الجانب قوية الشكيمة، عندها من موارد القوة ومصادرها، ومظاهرها ومنابعها ما يُرْهب أي عدو خارجي أو داخلي، ويمنعه من إيقاع أي عدوان أو ظلم؛ تحقيقا لقول الله تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ”. سورة الأنفال: 60.
ثانيا: وهي بالنظر إلى مجالاتها تنقسم إلى:
قوة العقيدة – قوة الخلق – قوة العلم – قوة الاقتصاد – قوة التماسك الاجتماعي – قوة الجهاد .
وقد ألف الشيخ السيد سابق – يرحمه الله – كتابا كاملا عنوانه: “عناصر القوة في الإسلام”، تحدث فيه عن هذه الأنواع من القوة، ورأى أن هذه هي العناصر التي تضمن للإسلام قوته وبقاءه واستمراره.
وحسبنا أن ننقل هنا ما جاء في مقدمته؛ حيث قال:
“دور الأمة الإسلامية دور إمامة وزعامة، وقد أمدها الإسلام بالعناصر التي تؤهلها لهذا المنصب الخطير.. ومن هذا المنصب الخطير تتألف القوة الحقيقية التي تصل بالأمة إلى غايتها، من العزة و المتعة، والمجد و السؤدد، والسيادة والقيادة، والتمكين في الأرض .. وليست هذه العناصر مقصورة على جانب دون جانب، وإنما تتناول جوانب الحياة جميعا فهي تتمثل:
* في الايمان بالله إيمانا يحرر الضمير والوجدان .
* وفي الاعتصام، بالحق استعصاما يزهق أمامه الباطل ويندحر.
* وفي معرفة الضعف النفسي، و التطهر منه، حتى تأخذ النفس طريقها إلى العزة والسمو.
* وفي العلم المقوم لشخصية الإنسان، والكاشف عن حقائق الوجود المادي، وما وراء هذا الوجود من عالم ما وراء الطبيعة.
* وفي الثروة ، وتعمير الأرض، و استثمار قوى الكون والانتفاع بما في الطبيعة، من بركات الله وخيراته، وتوزيعها على أفراد الأسرة الإنسانية بالكفاية والعدل.
* وفي إقامة المجتمع على أساس من الحرية والعدالة، والمساواة والتشريع السمح، والعمل الجاد، والمعاشرة الحسنة، والحكم الصالح التي تكون فيه السيادة للأمة.
* وفي السلام القائم على احترام الإنسان وكفالة حقوقه.
* وفي احترام العهود والحفاظ على المواثيق .
* وفي التضحية النبيلة والاستشهاد في سبيل الحق ومن أجل الحياة الحرة الكريمة.
هذه هي عناصر القوة في الاسلام، وهي ليست مثل القوة التي اصطلح الناس عليها، فهي قوة في العقيدة، وقوة الخلق، وقوة في العلم، وقوة في المال، وقوة في التماسك الاجتماعي، وقوة في التنظيم السلمي، وقوة في الاستعداد الحربي، وسيادة الأمة وقيادتها منوطة بتوفر هذه القوى مجتمعة”([7]).
وقد توسع الشيخ – رحمه الله تعالى – في التأصيل والاستشهاد من نصوص القرآن والسنة لكل قوة من هذه القوى بما يجلي حقيقتها ويوضح مكانتها ويبين أثرها على الفرد والأمة.
ثالثا: وهي بالنظر إلى الداخل والخارج تنقسم إلى:
قوة داخلية وقوة خارجية:
وتتمثل القوة الداخلية في :
1- أن يكون المجتمع قويا متماسكا، من خلال الأسر القوية، التي تعتبر الوحدة الأولى في بناء المجتمع القوي المتماسك، ولا غرو أن يتحدث القرآن الكريم عن الأسرة كما يتحدث عن الدولة!
2- يحتاج الحاكم هنا إلى رعاية الأئمة والخطباء الذين سيرسخون هذا التماسك الاجتماعي، ويحققون الأمن الثقافي والفكري بلا طغيان ولا إخسار، ولا إفراط ولا تفريط، فالدعاة والعلماء هم الضمانة الحقيقية لتحقيق هذا التماسك الداخلي وإيجاد الأمن الفكري، ومن هنا وجب على الدولة أو الحاكم رعايتهم ودعمهم.
3- كذلك لتحقيق القوة الداخلية يجب على الحاكم أن يأخذ على أيدي المجرمين، ويجفف منابع الجريمة، ويقضي على الفكر المتطرف بالحوار الهادئ والنقاش البناء، كما فعل عبد الله بن عباس وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم.
4- أن تتحقق الواجبات الكفائية في المجتمع، من طب وهندسة وتصنيع وتجارة وزراعة وإنتاج، وتوفير مختصين في علوم مختلفة، وبهذا تتحقق للمجتمع الكفاية الذاتية، وهو الطريق البارزة لجعل المجتمع قويا حرا، لا يرهبه تهديد معتدٍ، ولا يرغِّبه ترغيب مرغِّب.
أما القوة الخارجية فتتمثل في:
1- كل نقاط القوة الداخلية تسهم إسهاما واضحا في القدرة على التعامل الخارجي، وتهيء الفرصة لبناء سياسات خارجية راشدة.
2- أن تتعامل الأمة مع نظائرها من الأمم بندية وعزة وقدرة، لا أن تستخذى وتذل كما نراه في كثير من التعامل اليوم.
3- الإسهام في بناء اتحادات وتكتلات قوية تستطيع من خلالها إحداث التوازن العالمي للأمة المسلمة مع غيرها من الأمم؛ فقد أصبحت الاتحادات والهيئات هي لغة العصر الذي لم يعد يعرف الأفراد ولا العمل الفردي.
4- أن تعمل على تبادل المصالح المشتركة بين الأمم لتحقيق التعاون الإنساني العالمي والتعارف الأممي والتكامل البشري؛ عملا بقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…”. سورة الحجرات: 13.
([1])السياسة الشرعية: 25.
([2])مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا: من رسالة المؤتمر الخامس.
([3]) سبق تخريجه، وهذه الفقرة منقولة من المرجع السابق.
([4])مجمع الزوائد: كتاب الفتن – أعاذنا الله منها. أبواب في وقعتي الجمل وصفين. باب فيما كان بينهم يوم صفين – رضي الله عنهم.
([5]) لم أقف عليه.
([6]) لم أقف عليه.
([7]) عناصر القوة في الإسلام: 3-4. السيد سابق. دار الفتح للإعلام العربي. القاهرة. الطبعة الثانية. 2006م.
Leave A Comment