القوة في السياسة الشرعية 3

بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد

 

 

ضوابط القوة في السياسة الشرعية

إذا استخدمت القوة في السياسة الشرعية من قبل الحكام والولاة دون أن تكون مضبوطة بضوابطها فإنها تصاب بالنزق، وتسيء من حيث أرادت الإحسان، وتفسد من حيث أرادت الإصلاح، وتهدم من حيث أرادت البناء، وتحطم حياة الناس من حيث أرادت الخير لهم في المعاش والمعاد.

وإذا استخدمت من غير الحكام والولاة فهي صادرة من غير أهلها، وغالبا ما تكون في غير محلها، وفي هذا من الخطر على المجتمع وأمنه ما لا يخفى.

ولهذا لابد من وضع ضوابط لاستخدام القوة، حتى تثمر ثمرتها، وتؤتي أكلها، وتفعل فعلها، وتحقق مقاصدها وأهدافها.

ومن أهم هذه الضوابط:

أولا: أن يكون استخدام القوة صادرًا من جهته المشروعة:

من الضوابط المهمة التي يجب أن تنضبط بها القوة واستخدامها أن تكون صادرة من جهتها المنوطة بها، لا من أي جهة أخرى؛ إذ صدور القوة من غير جهتها المشروعة يهدد أمن المجتمع ويعرضه للفتن.

وأعني بالجهة المشروعة هنا السلطة التي اختارتها الأمة، أو رضيت بها وبايعتها، ووكَّلتْها في حماية المجتمع من الأخطار، وفي حماية حدوده، وتوفير الأمن والأمان لأفراده وجماعاته.

ولا يرضى الإسلام أن تقوم قوى أو جهات غير السلطة المختارة بتشكيل عصابات إجرامية لزعزعة الاستقرار وتقويض أمن المجتمع، والقيام بالافتئات على الحاكم المختار الذي يسعى في أمته وفق العقد المبرم بينه وبينها بما يحقق مقاصد الشرع، ويراعي مصالح الخلق.

ويأتي الخلل هنا من أمرين:

الأول: ألا يقوم الحاكم بواجباته، أو أن يخل بالعقد الذي بينه وبين الأمة، فيظلم ويتجبر ويطغى، ويخالف محكمات الشرع، فيهدر مقاصد الخالق، ويقوض مصالح المخلوقين، ومن هنا تنشأ في المجتمعات جماعات العنف، وجماعات السلاح التي ترى وجوب إزالة هذا الظلم فتستخدم القوة، وتستعمل السلاح، فتحدث الفتن والقتل والجراح.

والثاني: عدم الفهم الصحيح للإسلام، وعدم تقدير الأمور حق قدرها، واعتناق الفكر المتطرف الذي لا ينقصه الإخلاص بقدر ما ينقصه حسن الفهم وعمق التجربة، وهؤلاء يحتاجون إلى الرحمة والشفقة، والحوار الفاعل والتواصل البناء.

 

ثانيا: أن يكون استخدام القوة بحق:

استخدام القوة بغير الحق مذموم ومنكور، ذمه القرآن الكريم وأنكره، وجعل على فاعليه السبيل، قال تعالى: “إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ”. سورة الشورى: 42.

يقول الإمام الطبري: يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الطَّرِيقُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى الَّذِينَ يَتَعَدَّوْنَ عَلَى النَّاسِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، بِأَنْ [ص:529] يُعَاقِبُوهُمْ بِظُلْمِهِمْ لَا عَلَى مِنِ انْتَصَرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَقَّهُ. وَقَوْلُهُ: {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] يَقُولُ: وَيَتَجَاوَزُونَ فِي أَرْضِ اللَّهِ الْحَدَّ الَّذِي أَبَاحَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إِلَى مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ، فَيُفْسِدُونَ فِيهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 91] يَقُولُ: فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، لَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ”([1]).

واستخدام القوة من مصدرها المشروع يجب أن يكون بحق، لا ظلم فيه ولا بغي ، وإنما بالحق والقسط والعدل، وضابط هذا الحق الذي يضبطه ويحكمه هو المقصد من قيام الحكام والولاة، قال العلامة عبد الرحمن بن خلدون: “ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم … والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. فافهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك، من بعد. والله الحكيم العليم”([2]).

فهذا المقصد الكبير هو الضامن الحقيقي لكي يكون استخدام القوة بالحق، وكل استخدام للقوة لا يحقق هذا المقصد العظيم فهو استخدام بغير حق يجب أن يمتنع عنه الحاكم، ويجب على الأمة أن تأخذ على يد الحاكم لترده فيه إلى الحق.

 

ثالثا: ألا يكون استخدام القوة متجاوزا لحده:

لا ينفصل هذا الضابط عن الضابط قبله، فاستخدام القوة بحق والامتناع عن استخدامها بغير الحق، يؤدي بنا إلى عدم التجاوز في استخدام القوة، فهناك استخدام القوة بضوابطه، وهناك التعسف في استعمال الحق في استعمال القوة.

ولهذا ضبطت الشريعة استخدام القوة حتى لا يكون مُفْرطًا، وكي لا يأتي بنتائج عكسية، وربما يستجلب غضب الله تعالى وغضب الناس. ومن هنا كان تطبيق الحاكم للحدود مثلا له ضوابطه المعروفة والمدونة في مطولات كتب الفقه حتى لا يتجاوز في استخدام القوة، ولا يتعسف فيها.

وما أكثر ما أفرط الحكام والمحكومون في استخدام القوة باسم الإسلام، وباسم توفير الأمن، وباسم حفظ المجتمع، وباسم تحقيق مقاصد الشريعة، وهذا أدى ويؤدي دائما إلى زعزعة الأمن، واضطراب نظام الحكم، واستعداء الناس، وإلجاء الأمة إلى العنف واستخدام السلاح، بما يفضي في النهاية إلى عكس المقصود تماما.

ومن هنا نؤكد على أن يكون استخدام الحكام والولاة ومن يقوم مقامهم للقوة في حدوده، ومضبوطا بضوابطه، حتى يؤدي دوره، ويحقق مقاصده.

 

رابعا: ألا يترتب على استخدامها ضرر أكبر:

ومن الضوابط المهمة هنا – وفي غير هنا – ألا يترتب على استخدام القوة ضرر أكبر، وهي قاعدة كبيرة في الإسلام، حاكمة على استخدام القوة وضابطة له، كما أنها حاكمة في أعظم فريضة في الإسلام وأوسعها في باب السياسة الشرعية، وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد اتفق الفقهاء أنه إذا كانت إزالة المنكر ترتِّب عليه منكرا أكبر منه حرم الأمر والنهي، قال العلامة ابن القيم: “فإنكار المنكر أربع درجات؛ الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة”([3]).

ومما ذكره الإمام المحقق ابن قيم الجوزية عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم([4]).

وهذا يدخل أيضا ضمن فقه الموازنات وفقه الأولويات وفقه المقاصد، فهي منظومة مترابطة ومتكاملة يشد بعضها بعضا، ويرتبط بعضها ببعض.

وتَرَتُّبُ المفاسد الكبرى على استخدام القوة أمر يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، ويدخل ضمن تقدير الحاكم للأمور؛ إذ تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة، كما قرره الفقهاء.

 

 

([1]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 20/ 528-529. طبعة هجر.

([2]) مقدمة ابن خلدون: 1/ 365. الفصل الخامس والعشرون في معنى الخلافة والإمامة. تحقيق: عبد الله محمد الدرويش. دار يعرب. دمشق. الطبعة الأولى. 1425هـ. 2004م.

([3]) إعلام الموقعين: 3/ 12. دار الكتب العلمية. 1411هـ.

([4]) إعلام الموقعين: 3/ 13.