بناء نظام يحقق مقاصد الشريعة3
معالمه ومقاصده
د. وصفي أبو زيد
عنوان بناء نظام 3
طريق الأمن والوسطية:
ولكي يطمئن الفريقان المذكوران فلابد من أن يدرس كلاهما الشريعة الإسلامية ومقاصدها دراسة معمقة توقف كلا منهما على حقيقة الشريعة وحقيقة مقاصدها، ولا يكتفون بما يسمعونه حولهما أو من بعض من لا فقه له بالشريعة، فضلا عن مقاصدها التي تتفرع عنها وتتصل بها اتصالا لزوميا.
والذي يقفنا على الأمن المناقض للخوف سواء أكان منبعه النص أم المقصد، هو ما يلي:
أولا: معرفة، بل العلم والإيمان بأن الشريعة الإسلامية إنما نزلت لمصالح الناس، ولا يوجد نص أبدا لا صحيح صريح ولا غير صريح إلا وهو يتغيا تحقيق مصالح البشر في الدنيا والآخرة، وهذا القول لم يجادل فيه الظاهرية ولا بعض الأشاعرة الذين أنكروا التعليل والتقصيد والقياس، بل أثبتوا مصلحية الشريعة الإسلامية، وأنها نزلت لتحقيق مصالح الناس.
قال الإمام الآمدي رحمه الله: “فالإجماع إذًا منعقد على امتناع خلو الأحكام الشرعية عن الحِكَم، وسواء ظهرت لنا أم لم تظهر”([1]). وقال: “حال الشارع أنه لا يرد بالحكم خليًّا عن الحكمة؛ إذ الأحكام إنما شرعت لمصالح العبيد، وليس ذلك بطريق الوجوب (يعني العلم الضروري)، بل بالنظر إلى جري العادة المألوفة من شرع الأحكام”([2]).
وتحت عنوان: “في تحقيق معنى المقصود المطلوب من شرع الحكم”، قال الإمام: “المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد”([3]).
وقال الإمام العز بن عبد السلام: “والشريعة كلها مصالح؛ إما تدرأ مفاسد، أو تجلب مصالح؛ فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرًا يحثك عليه، أو شرًّا يزجرك عنه، أو جمعًا بين الحث والزجر”([4]).
وقال: “ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة لعلمنا أن الله أمر بكل خير دِقِّه وجِلِّه، وزجر عن كل شر دقِّه وجِلِّه؛ فإن الخير يُعبَّر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح”([5]).
وفي كلام هذين العالمين الأصوليين الكبيرين كفاية، وإلا لو تتبعنا أقوال العلماء في هذه الناحية لما كفانا ألف موضع، وكلام العلماء كافة في هذا المعنى الأكبر لا يختلف عن ذلك كثيرا.
ثانيا: العلم بأن المقاصد بنت النصوص ومستقاة ومستقراة منها من خلال مسالكَ قرَّرها الأصوليون – أغلبها أو كلها – إما من النصوص أو يرجع النصوص، و”يعتبر الكشف عن مقصد الشارع خطوة مهمة ومحورية يتوقف عليها تسديد الاجتهاد والتنزيل؛ فإذا كان التسديد فيهما يتوقف – في كثير من جوانبه – على معرفة مقاصد الأحكام، فإن معرفة مسالك الكشف عنها أمر سابق على ممارسة الاجتهاد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”([6]).
فمن مسالك أو طرق الكشف عن المقصد: الاستقراء، وهو استقراء للنصوص، ومنه: مجرد الأمر والنهي، وهو في النصوص، ومنه: العلل المذكورة في الأوامر والنواهي، وهي منصوصة كذلك، ومنه: التأمل في اختلاف الفقهاء، وهم يختلفون في فهمهم للنصوص، ومنه: الاستنباط، وهو قائم على النصوص والنظر فيها، ومنه: مفهوم النص ومنطوقه ومعقوله، ومنه: سياق النص والقرائن المحتفة به…إلخ.
فأين الخوف من المقاصد وأهلها؟ وهل هي بذلك تؤدي إلى هدم النصوص أو تكون بوابة للعلمانية وهي مأخوذة أساسًا من النصوص ومستقاة منها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!
ثالثا: العلم بأن هناك ضوابط لاعتبار المقاصد، فليس كل مقصد نسمع به أو نقرؤه يعد معتبرا بمجرد أن فلانا قال به، فلابد من تمريره – كما يفعل الأصوليون وعلماء المقاصد – على ما يعرف في هذا العلم بـ (ضوابط اعتبار المقصد)، فإن تحقق بهذه الضوابط فبها ونعمت، وإلا فلا يُلزمنا أحد بما لم يُلزمنا به الشرع الشريف.
والواقع أن “الحديث عن المقاصد يظل بلا أثر في الاستدلال الفقهي، حتى توضع له ضوابط تضبطه وتضبط عمله، وتبين متى يكون معتبرًا ومتى لا يكون كذلك. ومن ناحية أخرى فإن ضبط المقاصد… يُمكِّنُ من تقييم الأحكام والاجتهادات على اليقين أو الظن القريب لليقين، فإن الشريعة الإسلامية لا تراعي الأوهام أو التخيلات، بل توجب تركها والبعد عنها؛ ولذلك فلا يصلح المقصد الموهوم لضبط الاجتهاد، وهو ما يوفره عدم تحققه بضوابطه. ومن ناحية ثالثة فإن الحديث عن ضبط المقصد… بضوابطه المعتبرة يؤهل المقصد لأن يقوم بوظائفه الأصولية والفقهية وغيرها”([7]).
ومن هذه الضوابط: أن يستقَى المقصد من مسالكه المقررة، وأن يكون المقصد ظاهرا، ومنضبطا، ومضطردًا، وألا يتعارض مع مقصد أعلى منه، وألا يعود على غيره بالإبطال… إلخ.
والحق أنه عند تدقيق النظر لا يوجد تعارض بين مقصد ونص أو بين مقصد ومقصد إلا في رأس الفقيه أو في عدم صحة النص، فالمنطق الصحيح والفهم الصحيح والفقه الراسخ يحول بين هذا التعارض كله إن ظهر، ومع هذا الفهم والفقه والرسوخ والاستيعاب والإدراك سيتبدد أي تعارض مظنون، ونصل لمنهج سديد في التعامل مع التزاحم، ويتم تشغيل المقاصد بكل مراتبها وتفعيلها، ولن يضرب بعضها بعضًا، أو يلغي جزئيُّها كليَّها، أو يعودَ بعضُها على بعض بالإبطال.
وبناء على ذلك فلا خوف من النصوص،كما أنه لا خوف من المقاصد؛ لأنهما كليهما من مصدر واحد، ولأن النصوص لا تُفهم إلا في ضوء مقاصدها، والمقاصد لا تُستقى إلا من النصوص، ولا يكون المقاصديُّ إلا نصوصيًّا، ولا النصوصيُّ إلا مقاصديًّا. ومن ثم حين نقول “مقاصد الشريعة” فليس هذا بمعزل عن أحكام الشريعة، ولا أن المقاصد كلمة لا تتضمن أحكامها، وإنما المقاصد تعبر عن النصوص والأحكام، والنصوص تُثمر المقاصد، وكلاهما يُصدّق بعضُه بعضًا، ولا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأنهما يتكاملان ولا يتناقضان، ويتعاضدان ولا يتعارضان.
([1]) الإحكام في أصول الأحكام: 2/210. علي بن محمد الآمدي أبو الحسن. تحقيق: د. سيد الجميلي. دار الكتاب العربي. بيروت. الطبعة الأولى. 1404هـ.
([2]) الإحكام: 3/286.
([3]) الإحكام: 3/296.
([4]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/9. تحقيق: محمود بن التلاميد الشنقيطي. دار المعارف. بيروت. لبنان.
([5])قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/ 160.
([6]) المقاصد الجزئية: 285. د. وصفي عاشور أبو زيد. دار المقاصد القاهرة. 2015م.
([7]) المقاصد الجزئية: 389.
Leave A Comment