بناء نظام يحقق مقاصد الشريعة 5
معالمه ومقاصده
د. وصفي أبو زيد
التدرج منهجًا لتطبيق الأحكام وتحقيق مقاصدها:
ومن الأمور المهمة التي يناط بها رشاد الحكم، وإقامة نظام إسلامي حقيقي، وتحقيق مقاصد الشريعة: انتهاج التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية من خلال مؤسسات الدولة التي يناط بها ذلك بدراسات يقوم بها الفقهاء والخبراء.
ذلك، أن الخطأ في توقيت تطبيق الحكم لا يقل خطورة عن إهمال الحكم وتعطيله بالكلية، سواء من ناحية الديانة، أو من ناحية ترتب المفاسد عليه مما يتناقض مع تحقيق مقاصد الشريعة ويعمل على تعطيلها، أو من ناحية المثوبة والعقوبة أمام الله في الآخرة.
والتدرج في تطبيق الأحكام فرع التدرج في تشريعها، كما أن التدرج في التشريع وإنزال الشرائع فرع عن التدرج في خلق هذا الكون، ولا يعني تأخير تطبيق حكم من الأحكام عدم الإيمان به أو التشكيك في جدواه، وإنما يعني أن الواقع لم يتهيأ بعد لاستقبال واحتضان هذا الحكم.
ومن المعلوم أن الحكم الشرعي نوعان: حكم تكليفي، وحكم وضعي، فالحكم التكليفي هو: الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح، والحكم الوضعي يتضمن السبب والشرط والمانع والصحة والفساد أو البطلان والعزيمة والرخصة.
وإذا أردنا تطبيق حكم شرعي وتنزيله على الأرض فلابد من تهيئة الحكم الوضعي أولا، بإيجاد الأسباب وتوفير الشروط ورفع الموانع، وإذا لم يتحقق الحكم الوضعي فسوف يظل الحكم التكليفي معلقا في الهواء لا يجد أرضا مناسبة ينزل عليها لحين تهيئة الأرض لاستقباله واحتضانه.
ولهذا التدرج صلة وثيقة بتحقيق مقاصد الشريعة؛ إذ الاستعجال في التطبيق دون رعاية الحكم الوضعي بتهيئة البيئة والأرضية التي سيتنزل عليها الحكم، يؤدي يقينا إلى تدمير مقاصد الشريعة؛ حيث سينزل الحكم التكليفي على غير محل، ومن ثم لن يحقق المقاصد من تنزيله الصحيح.
وهذا يحتاج إلى رعاية حال المجتمع، وحال الناس في ضوء المرحلة التي يمر بها الجميع وتحملها لأحكام الشريعة، وتهيئة ذلك كله بما يجعل الأحكام التكليفية تتنزل في مناطاتها الصحيحة، وهذا وحده هو الطريق الصحيح لتحقيق مقاصد الأحكام الشرعية.
إننا بحاجة إلى نظام سياسي يحقق مقاصد الشريعة، وإلى فقه صحيح لمقاصد الشريعة الإسلامية نفسها من خلال أحكامها، ومن خلال مراحل تاريخنا العظيم الذي استصحب هذا الفكر؛ سواء في مراحله التي شهدت استدعاء عاديا لا يلفت النظر، أو المراحل التي استنجدت بفكر المقاصد وفقهها بشكل مكثف في فترات إرادة النهضة ومقاومة المحتلين، وصد طعنات أعداء الإسلام في عقيدته وشريعته وحفظ هوية الأمة وعقيدتها وشريعتها وتاريخها وحضارتها.
تحقيق المقاصد في عصرنا الحاضر:
وإذا أردنا أن نلخص المقاصد التي يُناط بالأمة وحكامها تحقيقها الآن، فإنها تتلخص فيما يلي:
1- حفظ الدين: وهذا يتم بتوفير فرص تعلم الدين الصحيح وممارسة تعاليمه وصبغ الحياة بالصبغة الإسلامية، ونشر مظاهر الإسلام، ومحاربة الرذيلة، ومنع إشاعتها في الإعلام والطرقات وغيرها، ومحاربة الخمر والمخدرات.
2- حفظ النفس: بإشاعة الأمن، وسن القوانين التى تحفظ حياة المواطنين، وتجريم القتل سواء العمد أو الإهمال، وإزالة كل ما هو خطر على النفس فى الطرق أو الأدوات أو الغذاء، والاهتمام بالصحة وأسبابها من المنشآت والدواء وصناعة الدواء حتى لا تتعرض الأمة لخطر منع الدواء أو نقصه وتوفير الأطباء والتعليم لهم وتوفير مراكز البحوث الطبية والصحية ومراقبة الدواء والغذاء، ومحاربة المخدرات والخمر والمفترات. ومن الأمور المهمة هنا الاهتمام بالجيش والصناعات العسكرية لمنع أي اعتداء على النفس من قبل الأعداء فى الداخل والخارج، وعقد التحالفات لحفظ أنفس المواطنين فى الداخل والخارج.
3- حفظ النسل: بتجريم الزنا وتيسير الزواج للمواطنين بتوفير السكن ومصادر الرزق لبناء الأسر الجديدة وتوفير الرعاية الصحية للأم والطفل وتوعية الأزواج.
4- حفظ العقل: وذلك بتجريم الخمر والمسكرات صناعة وبيعا وتعاطيا، بالإضافة إلى الاهتمام بالتعليم الذي يوفر الوعي والعلم بالتاريخ ومبادئ وثقافة المجتمع، والكشف عن الأعداء والأصدقاء والأفكار المضادة والمنحرفة، وكذلك دعم الإعلام المتميز الذي يحارب تغييب الوعي وتحريف التاريخ والأفكار.
5- حفظ المال: بمحاربة الفساد المالي على كل المستويات، والحفاظ على المال العام وثروات الأمة، وتوفير الشفافية فى ذلك، وتحقيق رقابة الأمة على المال العام، وعقد المعاهدات الاقتصادية، وتوفير فرص العمل والاستثمار المتكافئة للمواطنين وحراسة المال الخاص من السرقة، وسن القوانين التى تصون المال الخاص من الاستيلاء عليه, وتجريم الاحتكار والرشوة والتكسب من المناصب، وضمان أجر العامل والمتعاقد وحقوقه.
6- ضمان الحرية: وأهمها حرية التنقل والسفر في الداخل والخارج، والعمل والكسب، بالإضافة إلى الفكر والعلم والاجتماع، وتكوين المجموعات الممارسة للأنشطة غير المجرمة، والحرية ليست ضمن المقاصد الكلية ولكنها أوسع منها؛ حيث تمثل الحاضن لها مثل الكرامة والأمن والعدل، وغيرها.
7- حفظ الكرامة: فالإنسان يكتسب حق الكرامة بمجرد الميلاد لكونه إنسانا، فلا تهان كرامته في أي مكان أو زمان، وبخاصة مع الأجهزة الحكومية، فهي خادمة له وليست مخدومة، ويتجسد ذلك أول ما يتجسد في اختيار الحاكم على كل المستويات، حتى في المحافظات والإدارات الأمنية، وكذلك منحه حق محاسبة كل من اختاره.
8- الأمن الفردي والجماعي، الذي يجب أن يتمتع به الفرد والمجتمع، وهو وظيفة الحاكم في الأساس؛ أن يقوم على أمن المحكومين، وتوفير ذلك لهم، وفي الشريعة من التدابير الشرعية ما لو وقف الحاكم عند حدوده لأوجد حقيقة الأمن الفردي والجماعي.
الخلاصة:
في الصدر الأول للإسلام حقق الخلفاء الراشدون النظام الأمثل الذى حقق المقاصد الشريعة لهذا الدين المنزل والرسالة الخاتمة, فلما كانت القرون التالية بدأ السلطان يفترق عن القرآن، وانتقص من معنى الخلافة بالانتقاص من الشورى وتحويل الحكم إلى ملك عضوض، وضعف الاهتمام بالمقاصد وفكرها في بعض الفترات، فعمد العلماء المصلحون أن يردوا الأمة لخيريتها بتحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم، تحقيقا لمقاصد الحق ومصالح الخلق، وهذا الأمر لا يتم إلا بنظام قائم بين الحاكم والمحكوم يحقق الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فيأمن الناس على دينهم وأنفسهم وأموالهم وعقولهم وأعراضهم وحرياتهم، فلا ينخدعون بمظهر، ولا يقدمون تحسينياتهم على حاجياتهم ولا حاجايتهم – فضلا عن تحسينياتهم – على ضرورياتهم.
Leave A Comment