جوهر الصراع ومقوماته
في القرآن الكريم
في القرآن الكريم
موضوع كبير من موضوعات القرآن الكريم؛ التعرض له يأتي على وجه التفسير الموضوعي لكتاب الله عز وجل، وهذا اللون من التفسير يجب أن يحتل المكانة الأولى في عالم التفسير، ولا سيما في هذا الزمان الذي تشتدّ فيه الحاجة لتنزيل آيات القرآن وهداياته على الواقع، ومعرفة السبيل القويم لمعالجة النوازل التي حلت بالأمة الإسلامية.
ولا ريب أنّ إدارة الصراع أحد أهم التحديات المعاصرة، بل هو التحدي الأكبر الذي يتحدد بموجبه مصير الأمّة وسط هذا المزدحم من التناقضات والإشكالات، كيف ننجح في إدارة الصراع؟ ما هي المقومات الرئيسية التي تدعم هذه العملية وتضمن لها النجاح ولو على المدى البعيد؟
إنّ الذي يقرأ القرآن وهو يعيش همّ الأمّة ويعاني معالجة قضاياها هو الذي يرى الحقيقة الرائعة الباهرة، حقيقة أنّ القرآن الكريم يخوض بالفئة المؤمنة الصراع مع الجاهلية، ويرسم لها الطريق، ويضع لها على منحنياته المعالم البارزة، ويقرر بوضوح شديد مقومات النجاح في إدارة هذا الصراع، فما هي هذه المقومات؟
على سبيل الإجمال؛ تتلخص مقومات إدارة الصراع في كتاب الله تعالى في إدراك الذات أولا، ومعرفة الرؤية والمشروع، ثم في معرفة العدو، والوقوف على طبيعته ودرجة عداوته وسقف الصراع الدائر بيننا وبينه، ثم في فهم طبيعة الصراع، وهل هو صراع أيديولوجيّ أم صراع مصالح أم ماذا؟ ثم في ربط مراحل هذا الصراع بالسنن الإلهية التي يحكم الله بها العالم ربطاً صحيحا، ثم في تحديد الموقف من هذا العدو بقدر كبير من الوضوح والشفافية وعدم التلبيس، وأخيرا في السعي لاستكمال أدوات وآليات التحكم في هذا الصراع.
ففي اتجاه إدراك الذات تأتي آيات القرآن الكريم واضحة وحاسمة، فهذه الأمّة ليست كأيّ أمّة من الأمم، وإنما هي أمّة صاحبة رسالة عالمية: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107) (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان 1) (وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (القلم 52) (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف 158)، ولأجل أنّها أمّة صاحبة رسالة عالمية سامية جاءت بمنهج وسط عدل؛ تقاس به كل المناهج وتوزن به كل الأوضاع: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة 143)؛ وهذا يستوجب أن تكون على هيئة من الخيرية تؤهلها لدورها الكبير: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران 110)؛ ويترتب على ذلك كله - وعلى حتمية الواقع المعاند الكَنُود - أن يكون الجهاد سبيلها في القيام بوظيفتها: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة 193) وهذا وغيره يستلزم قيام دولة ذات نظام خاص يسمو ويتفوق على كل الأنظمة، ويُمَكِّن الأمّة من حماية منهج الله وبسط سيادته على أرض الله؛ (حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال 39).
وإدراك الذات أحد شِقَّي الحقيقة، ومبتدأُ الجملة التي لا تتم إلا بخبرها، وهو معرفة العدو: من هو؟ وما امتداداته، سواء منها الصريحة أو المتوارية خلف أستار النفاق؟ وأين يقف هذا العدو؟ وكيف يفكر؟ وما هي نظرته إليك، وما حدود عداوته لك؟ وما هو سقف صراعه معك؟
ولعل إدراك الحقيقة بشقيها هو الغرض من ابتداء سورة القتال - التي ترسم استراتيجية الصراع في المرحلة الأولى من المواجهة المسلحة - بهذه الثنائية الفارقة: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)) (محمد 1-3)، وهي ثنائية تمضي بهذا التوازي مع تتابع موضوعات السورة.
وقد فصَّل القرآن في بيان طبيعة العدو، فلم يترك - برغم الإجمال الشديد - زاوية شاغرة ، وإذا كان جميع الأعداء في كل مكان وزمان ينتمون غالباً إلى هذه الفئات الثلاثة: المشركين وأهل الكتاب، والمنافقين؛ فإنَّ القرآن قد أسهب في بيان طبيعة كل طيف من هذه الأطياف بصورة جَليَّة.
فلقد تحدث القرآن عن المشركين المعاندين حديثا بيِّنا يناسب حالهم في السفور والإعلان: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)) (البقرة 6-7)، (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (الأنعام 7)، (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الأنعام 28)، (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)) (الحجر 14-15) فهذا شأن معانديهم، أمّا الرعاع الهمج فهم - إلا من هدى الله - يمضون وراء صناديد الضلال عن هوى؛ لذلك يكون صياحهم يوم القيامة: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا). (الأحزاب 67). (يتبع إن شاء الله)