من قصة داوود وسليمان عليهما السلام (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..
لولا أنَّ الله تعالى يدفع كيدَ الكافرين ومكرهم وظُلْمهم وغَشَمَهُم بجهاد طائفة من المؤمنين ونضالهم ورباطِهم؛ لصارت الأرض كلها غابة موحشة تعوي في حنباتها الذئاب، ولعل هذه الحقيقة بعضُ ما توحي به هذه الآية الكريمة(): (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة 251) وهي الآية التي ختم الله تعالى بها قصة طالوت، الملك الذي اختاره الله لبني إسرائيل فخاض بهم الصراع مع جالوت الطاغية.
ويبدو جليا من سياق الآية الكريمة أنَّها تكشف عن سنة من السنن الإلهية الماضية، يمكن أن نسميها: سنة الدفع، كما كشفت عنها أية أخرى مشابهة لها في سورة الحج: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج 40)؛
هذه السنة هي التي يحفظ الله بها عباده من الانسحاق تحت مطارق الصراع الأزليّ الأبديّ بين الحق والباطل؛ لذلك ختمت الآية الأولى بقوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)، وبقدر ما يحسن أهل الحق إدارة الصراع يكون مستوى اندفاع الباطل واندحار أهله؛ ولذلك ختمت الآية الثانية بقوله تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
بيد أنَّ اللافت للنظر أن سنة الدفع جاءت في سورة البقرة مسبوقة بذكر داود والإشارة إلى ما شرفه الله به: (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (البقرة 251)؛ فهل سيكون لداود دور في إرساء قواعد إدارة الصراع؛ ليتحقق أعلى معدل للدفع؟ أجل؛ سيكون له دور كبير، وسيكون لولده أيضا دور لا يقل عنه في عظمته وإلهامه، فما هي قواعد إدارة الصراع حسبما يتضح من قصة النبيين العظيمين داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؟
وقد جاء الجزء الأكبر والأكثر إثارة من القصة في سورة ص؛ جاء مسبوقاً بآيات تقرر سنة في الخلق تُعَدُّ هي الأساس السابق لسنة الدفع، وهي سنة التدافع، التدافع بين الحق والباطل، ذلك التدافع الأزلي الأبدي الذي لا يفتر وليس من طبيعته أن يفتر أو يهدأ، فتأمل سياق الآيات: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)) (ص 1-17)،
إنَّ الباطل وأهله في عزة ومغالبة وشقاق ومنازعة، والملأ منهم والكبراء يستحثون الأتباع الأذلاء أن يمضوا في عدائهم وحربهم للحق وأهله، وأن يصبروا على الارتباط بآلهتهم والاعتصام بها؛ بزعم أنّ دعوة الحقّ وراءها شيء يُرادُ وغرض يُدَبَّرُ له، وهذا الذي يمضون فيه هو دأب الأمم قبلهم كقوم نوح وعاد، وثمود وفرعون ذي الأوتاد، وسائر الأحزاب الذين طغوا في البلاد؛ لأنَّها سنة ماضية لا تتخلف، سنة التدافع بين الحق والباطل، والصراع الدائم بين أهل الحق وأهل الباطل؛ ولأنّ إدارة الصراع فنٌّ له قواعده وأصوله ختمت الآيات بدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مراجعة سيرة داوود ذا الأيد (أي: القوة).
والقوة تشمل القوة في الدين والقوة في الدولة والحكم وأدوات الإكراه، فقد كان داوود عليه السلام أوَّابا كثير الرجوع إلى الله وكثير الترديد للذكر، وهي خلة لا تكون إلا مع قوة الدين وعظمة اليقين، وقد بلغ من شدة الاتصال بالله تعالى أنَّه كان إذا سبح الله سبحت معه الجبال والطير، وإلى جانب ذلك كان ملكه مشدوداً قويا بالقوة والحكمة وفصل الخطاب، فاجتمع له أمران ضروريان في خوض الصراع ضد الباطل: القوة والقدوة، ولكي تتم القدوة استدرك عليه الوحي في قصة التحكيم بألا يتبع الهوى وأن يحكم بين الناس بالحق لأنه خليفة في الأرض بمنهج الله تعالى، فتأمل الآيات لترى كيف اجتمع هذان الأمران: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)) (ص 17-26).
إنّ الحكم الرشيد العادل خلافة في الأرض بمنهج الله، وإنَّه في صراع دائم مع الباطل، لذلك وجب أن يجمع بين القوة والقدوة، فلا القوة تدفعه لتجاوز الحدّ ولا القدوة تثنيه عن الإعداد واستكمال أدوات خوض الصراع، ومن هنا كان وصف الله تعالى لمحمد رسول الله والذين معه: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (الفتح 29)؛ فمثلهم في التوراة يبرز القدوة ومثلهم في الإنجيل يبرز القوة؛ فاجتمع لهم القوة والقدوة، فبالقوة يواجهون أهل العناد وبالقدوة يهدون قلوب العباد.
إنَّ دولة الحق والعدل قدوة لجميع الدول في حماية الحريات وحقوق الإنسان، وفي إقامة العدل بين الناس، وفي تعظيم شعائر الله ومناسك الدين، وهي في ذات الوقت تحوز القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والعلمية وتواجه القوة بالقوة وتدفع البغي والعدوان بما لا يندفع إلا به من أسباب الإكراه الماديّ، فلا قوتها تغريها بالظلم والعدوان، ولا تمسكها بالقدوة والاستقامة يرديها في مستنقع الذل والهوان، وبهذين: القدوة والقوة تنجح في إدارة الصراع مع قوى الباطل، هذا هو المقوم الأول من مقومات إدارة الصراع، ووراءه مقومات أخرى نتعرض له في مقال قادم إن شاء الله تعالى. (يتبع)