من قصة داوود وسليمان عليهما السلام (4)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..
لا يكفي امتلاكُ القوة وحيازةُ أدوات الإكراه وما يَتْبَعُ ذلك من إعدادٍ في حسم الصراع، ولا حتى في حسن إدارته، لا يكفي شيء من ذلك مهما بلغ من الكمال والتمام؛ حتى يتقدمه ويسبقه امتلاك القرار، والاستقلال التام في إنشاء التصرف وتغييره أو إيقافه، وليس شرطاً في اتخاذ القرار عند امتلاك القوة أن يكون منحازاً دوماً إلى خيار استعمال هذه القوة؛ هكذا يكون الرشد في إدارة الصراع، وهكذا تقضي الحكمة السياسية؛ فأين نجد هذا في قصة داوود وسليمان عليهما السلام؟
لقد بدا واضحاً في سياق قصة سليمان مع بلقيس - القوة العظمى المنافسة آنذاك - علو النبرة، واستعلاء الخطاب، وعدم الخضوع لأي مؤثرات خارجية عند اتخاذ القرار، وهذه ملامح الاستقلال السياسيّ والتجرد والتحرر لدى اتخاذ القرارات، ففي البداية كانت الرسالة الأولى على هذا النحو من الحسم والمضاء: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)) (النمل 30-31)؛ وكان لهذا الاستعلاء المنبئ عن الثقة دوره في الاهتزاز المبكر الذي أصاب الملكة وبدا واضحا في مواقفها وتعبيراتها كذلك، ولما حاولت أن تثنيه عن قراره بالهدايا، جاء جوابه كالعاصفة: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)) (النمل 36-37)، وهذا سياق في التعاطي مع الأحداث لا ينم إلا عن امتلاك القرار والاستقلال به وعدم الخضوع أثناء إصداره لأي مؤثرات أو إملاءات من أحد، وهذا ضروريّ للنجاح في استغلال القوة لتحقيق تقدم في إدارة الصراع والخروج من بنتائج ذات قيمة عالية.
وليس بالضرورة استعمال القوة لدى كل مواجهة، بل إنّ الرشد السياسيّ يقتضي تأخير استعمالها إلى أن تقضي الظروف بحتمية التدخل العسكريّ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى قريش في الفتح بما لا قِبَل لها ولا لأحد من العرب به، ومع ذلك بنى استراتيجيته على تأخير المواجهة وتقليل فُرصها، والاعتماد على الإرهاب فقط لإنهاء العملية، وقد تمّ له ما أراد، وهذا له عدة أهداف استراتيجية غاية في الأهمية، يتقدمها الهدف العظيم الذي لا يصح أن نقدم عليه هدفا آخر، وهو الحفاظ على مخزون الكرامة والأنفة والعزة لدى قوم يُرجى إسلامهم وانتفاع الحق بهم، وقد استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة غمست نفسها في مستنقع الإجرام إلى قاعه فقال: "اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة" أمّا القاعدة العامّة فجاءت على نحو يتسق مع رسالة الإسلام ومقاصد الجهاد، وفي نفس الوقت يتلاءم مع طبيعة قوم فيهم من الأنفة والعزة ما يسمو بهم عن ممارسة النفاق وما يجعلهم أكثر ميلا للحق إذا كان رحيما ودوداً متسامحاً، تلك كانت طبيعة القرشيين التي أدركها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأهل مكة أدرى بشعابها - فكانت القاعدة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وقد روى التاريخ مواقف عن الطلقاء لا تقل عظمة عن كثير ممن بادروا للإسلام، وإن كان السابقون في الجملة أفضل عند الله.
وسليمان عليه السلام قام بحملتين متتاليتين؛ كان الغرض منهما معرفة عقل الملكة: أهي ممن يتصفون بالنباهة فيرجى اتعاظها؟ أم ليست كذلك فيكون أمر آخر؟ ومعرفة قلبها: أهي من أهل العناد فلا مناص من مواجهتها بالقوة أم إنّ الفرصة متاحة لتجربة أخرى؟ وكانت التجربة الأولى أنّه بعد أن جاء بعرشها على نحو يهزّ ثقة العدو بنفسه أجرى لها هذا الاختبار: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ) (النمل 41)، ولمّا كان جوابها على هذا النحو الموحي بالذكاء والأناة: (كأنَّه هو) فلم تنف ولم تثبت؛ انتقل معها إلى الاختبار الثاني، وهي نَقْلَة تُشْعِر بالرضا المبدئي بأدائها مع الطمع في إسلامها: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل 44)، وبهذا كفاهم الله مؤنة القتال، وتحقق على أعلى مستوى المقصد الأعلى من امتلاك القوة وهو الهداية.
ونعود إلى مبدأ امتلاك القوة، والتعبير عن آلية من الآليات بمصطلح (مبدأ) يكون سائغاً إذا احتفت الآلية بجملة من الإجراءات التي تنقلها من مجرد كونها آلية ووسيلة إلى مبدأ من المبادئ، فالقوة في الإسلام دائماً في جانب الحقّ والعدل ومصلحة البشرية؛ وهي على طول الخط ضد الباطل والظلم والفساد والاستبداد؛ ومن هنا فإنّ السعي لامتلاك القوة عبادة وطاعة، والتقاعس عنها تفريط ومعصية، وهذا يجعل امتلاكها مبدأ، وقد كان سليمان وداود عليهما السلام حريصين على ذلك بتوجيه الوحي الإلهيّ، فها هو داود عليه السلام يمارس بنفسه مهمة صناعة الدروع السابغات: (َعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (الأنبياء 80)، وسليمان عليه السلام كان يبالغ في العناية بقواته المسلحة إلى حدّ الخروج عن المألوف، فانظر إليه وهو يقيم عرضا عسكرياً وتأمّل كيف يعنى بمراكب القتال: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)) (ص 31-33).
فانظر إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو يستعرض قواته، ففي وقت العشي الممتد من بعد الزوال إلى قرب الغروب عُرضت عليه - بأمر منه - كتائب الخيل؛ فإذا هي في وقوفها صافنات، وفي عدوها جياد، صافنات تقف على ثلاثة وترفع الرابعة؛ دلالا وإبداء للقدرة والتمكن، وجياد أي سراع لا يسبقها شيء من مراكب الحرب، وإذا هو يستغرق في هذا الاستعراض حتى يشعر بأنّه قد بالغ في حب الخيل المعقود في نواصيها الخير، فيأمر بردها عليه بعد أن توارت بحجاب النقع الذي أثارته في الفضاء، فطفق يودعها بالمسح على سوقها وأعناقها بحنان وعطف وعناية.
ولم يترجح لدى المفسرين الرواية القائلة بأنّ سليمان عليه السلام نحر الخيل وقطع أعناقها وسيقانها؛ إذ هي من الإسرائيليات التي دخلت على التفسير من مُسْلِمة أهل الكتاب، وهي كذلك غير متآلفة مع السياق إلا بعسف في التأويل، والذي رجحه المفسرون وجاء متآلفا مع السياق متلائما مع الحدث هو أنّ سليمان عليه السلام مسح بالسوق والأعناق تدليلا وحباً وعناية؛ كرسالة منه للمسلمين بأنّ آلات الحرب لها قيمة لكونها تحمي الحق، وقد علق ابن جرير مرجحاً لهذا التفسير بقوله: "وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية"() وما رجحه ابن جرير مال إليه ابن عطية وابن كثير وأكثر أهل التأويل والتفسير، وهو الذي يجب المصير إليه بمقتضى العرض على مقاصد الشريعة الغراء.
إنَّ إعدام آلات الحرب ومراكبه ليس من سنة الأنبياء والمرسلين، وإنَّما هو من سنن الحكام المخدوعين، وقد رأينا كيف كانت أول غارة عسكرية على العراق تالية بأيام قليلة لإعدام صدام حسين لآخر صاروخ من صواريخ اسكود التي كان يملكها، ولم يشفع له عند عدوه أنّه كان مرناً مع لجنة التفتيش الدولية، فهذا مثال لمن امتلك القوة ولكن لم يمتلك القدرة على اتخاذ القرار باستقلال واعتدال، وما فائدة قوة تم استثمارها مرتين في قتال جيران مسلمين في الجملة، بينما سلمت اسرائيل طوال عمره وعمرها من خطرها، باستثناء طلقات ببعض الصواريخ أشبهت طلقات (الفشنك) التي تطلق في الأعراس!!
وإذا كانت القوة وما تستعمل فيه من الجهاد والقتال وسيلة إلى غايات كبرى فنحن على موعد مع مقوم عظيم من مقومات إدارة الصراع، وقاعدة عظمى من قواعده، ولعل هذا يتيسر عاجلاً (يتبع)