من قصة داوود وسليمان عليهما السلام (5)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..
باجتماع القدوة والقوة تترسخ القاعدة الأولى من قواعد إدارة الصراع في كتاب الله تعالى، وهي القاعدة التي تم تناولها في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، وتم البناء والتفريع عليها في الحلقات التالية، غير أنّ الحديث عن القوة قد يطغى دون قصد على القلم وما يسيل منه؛ مما يستلزم استدراك الأمر ليتحقق التوازن المطلوب، ومن هنا جاءت الحلقة الخاتمة لهذه السلسة مركزة على قاعدة الاعتصام بالمبادئ.
ربما يرى البعض أنّ التمسك بالمبادئ أمر لا تميل إليه السياسة؛ لكونها تقوم على المصالح، وهذه رؤية في حقيقة الأمر قاصرة وبائرة؛ لأنّ التعارض بين المبادئ والمصالح ليس من الظواهر المطَّردة الملازمة لكل ممارسة سياسية، فالمصالح تنقسم في نظر الشرع إلى مصالح معتبرة ومصالح ملغاة ومصالح مرسلة، فأمّا المعتبرة والملغاة فلا إشكال فيهما؛ حيث تتوافق الأولى مع المبادئ توافقاً تامّاً، وتتنافى الثانية مع المبادئ منافاة تامّة؛ بما يجعل تحقيق الأولى وإهدار الثانية حفاظاً على المبادئ أمراً ميسوراً سائغاً في الممارسة السياسية، وأمّا المصالح المرسلة فهي التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار ولا بالإلغاء، ولكن شهد لجنسها بالاعتبار، ويقضي الاجتهاد بموافقتها لمقاصد الشريعة، وهي اجتهادية مرنة، ومتغيرة في كثير من الأحيان، ومرونتها وتغيرها لا يجعلها خارجة عن فلك المبادئ؛ لأنَّها في غالب الأمر تتعلق بفروع الشريعة لا بأصولها وثوابتها؛ ومن هنا لا يمكن أن يقع تعارض بين الحفاظ على المبادئ ورعاية المصالح في الممارسة السياسية الرشيدة، إنَّما يقع ذلك عند القصور والعجز وتخلف الإرادة أو تعطل القدرة.
ولقد كان الحفاظ على المبادئ في مقدمة الأولويات لدى نظام داود وسليمان عليهما السلام، فلم يكن داود عليه السلام ظالماً ولا متعمدا جورا في حكمه؛ كل ما في الأمر أنَّه بادر إلى الحكم قبل استيفاء السماع من الأطراف؛ بسبب التأثر الشعوريّ بشكوى المدعي، وهذا خطأ من الأخطاء التي تغتفر ما لم يكن وراءها قصد الجور أو الانحراف عن العدل، ومع ذلك نزلت الآية بهذه اللهجة الصارمة: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص 26)؛ إنّ دولة الحق دولة مبادئ، لا تثنيها متطلبات إدارة الصراع مع قوى الباطل عن هذه المبادئ، ومصالحها تدور في فلك المبادئ، وتتناغم معها، هذا التناغم علامة من علامات القوة والازدهار.
وسليمان عليه السلام لم يُنْسِهِ الملك والسلطان والتمكين أنَّه واقع تحت سنة الابتلاء والتمحيص، وأنّ عليه أن يقابل نعمة ربه بالشكران لا بالكفران، فعندما رأى عرش الملكة قائماً بين يديه لم يأخذه الغرور بإمكانياته، وإنما: (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل 40)، وبينما بلغ ذروة التمكن والعلم بسماعه وفهمه للغة النمل جاء انطباعه على هذا النحو: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل 19)؛ إنّ قيام دولة للإسلام وامتلاك قوة للحق لا يعني أنّ رجال هذه الدولة أومن يمتلكون هذه القوة ينسون أنَّهم بما أقاموا وملكوا واقعون تحت طائلة الاختبار والابتلاء والفتنة؛ وأنَّ عليهم أن يتقوا الله في ذلك كله، وأن يسخروه للخير لا للشر، وفي الحق لا في الباطل، وبالعدل والقسط لا بالظلم والشطط.
أمَّا مواقف سليمان تجاه ممارسات خصمه فهي غاية في المثالية الأخلاقية؛ فهو من المبتدأ لم يتخذ خطوة ولم يمارس إجراء عملياً حتى يتحقق ويتثبت ويتبين؛ إذ لم يكتف بما أبلغه به جهاز استخباراته حتى أجرى اختباراً على طريقته كسياسي قياديّ لا يبني قراراته على تقارير استخباراتية وحسب: (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)) (النمل 27-28)، وكان نص الكتاب من جملتين الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم، والثانية: لا تعلوا عليّ واتوني مسلمين : (إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)) (النمل 30-31)، فهي دعوة للإسلام يتقدمها ابتداء باسم الله الرحمن الرحيم، وما أعظمها من دعوة ترقى بالإنسان! وما أعظمه من ابتداء يفيض بالندى والحنان! ولدى هذا التصرف تتجلى الأوضاع وتتضح التوجهات، وتبين المواقف.
وعندما أساءت الملكة فهم الأمر وبادرت بالتصرف غير اللائق وأرسلت رسلها إلى سليمان برشوة أخذت صورة الهدية؛ كان ردّ سليمان على نحو يظهر مقاصد دعوته وجهاده، فدولة الحق ليست دولة جباية تقتات مصائب الخلق وتتاجر بمشكلات الشعوب، ليست دولة تتخذ من أخطاء الآخرين ذريعة للابتزاز و(سبوبة) لجني الخراج، وإنَّما هي دولة دعوة ومبادئ شرعية إنسانية غاية في الرقيّ والنقاء؛ لذلك وجدنا سورة الأنفال - قبل أن تفصل في آية منها أحكام الغنائم - تفتتح بهذه الآية العجيبة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال 1)؛ وذلك حتى لا تنقلب الأوضاع فتحل الأدوات والوسائل محل الغايات والمقاصد.
لذلك وجدنا صورا مشرقة فياضة بالمعاني تملأ صفحات الجهاد الإسلاميّ، ولم تكن مجرد تصرفات تحسب على أشخاص وكيانات، وإنّما كانت منبثقة من منهجية قرآنية شرعية، فها هو القرآن يقرر عقب آية السيف التي تمثل ذروة مراحل الجهاد قاعدة في التعامل مع الأفراد (المدنيين): (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) (التوبة 6)؛ إنَّها حرب شرعية مقدسة تستهدف إسقاط الحواجز التي تحول دون حرية العقيدة، وليست حرب انتقام أو إبادة، ومن هذه الصور المشرقة أن المسلمين إن كان بينهم وبين أمة من الأمم عهد وميثاق، وآنس المسلمون من معاهديهم خيانة فلا يحل لهم أن يبادئوهم بنكث العهد، بل عليهم أن يعلنوهم بانقضاء العهد الذي كان بينهم حتى يكون الفريقان مستويان في العلم بانتهاء العهد، وهذا السلوك تلقاه المسلمون أمرًا مباشرًا من القرآن، قال الله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) (الأنفال: 58)، وقد نهى الله المسلمين أن يتخذوا أيمانهم دَخَلاً بينهم؛ لئلا يكونوا قدوة للناس في نقض العهود، قال تعالى: (وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 94).
إنّنا بحاجة إلى الاعتصام بمنهج الله في إدارتنا ومواجهتنا للصراع الذي فرض علينا، وإنَّنا بحاجة كذلك إلى استلهام العقيدة والشريعة والمنهج من خلال التفسير الموضوعي لكتاب الله تعالى، ذلك اللون من التفسير يفتح آفاقاً رحيبة للاستفادة بهدايات القرآن، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل القرآن، وأن يضيء حياتنا وينير دربنا بنور القرآن، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)) (الصافَّات 180-182).