بناء نظام يحقق مقاصد الشريعة 4
معالمه ومقاصده
د. وصفي أبو زيد
تصرف الحاكم مع الرعية منوط بالمصلحة:
إن أي نظام سياسي يقوم في الأمة واجب عليه أن يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا، وهذه هي الوظيفة الأساس لأي حاكم في الإسلام.
وإذا تأملنا كلام فقهاء السياسة عن واجبات الحاكم نجدهم حصروها في عشرة كما يلي:
1- حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة؛ أي إقامة الدين على وجهه الصحيح.
2- تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بينهم؛ أي إقامة العدل بين الناس وتنفيذ الأحكام.
3- حماية البيضة والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين؛ أي نشر الأمن في الداخل.
4- إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك, وتحفظ حقوق عباده من الإتلاف والاستهلاك؛ أي تنفيذ عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص على أهلها.
5- تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرما ويسفكون فيها دما لمسلم أو معاهد؛ أي حماية الأمن الخارجي بالعدة والاستعداد الدائمين.
6- جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
7- جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير عسف.
8- تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
9- استكفاء الأمناء وتقليد العظماء فيما يفوضه إليهم من الأعمال.
10- أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة.
هذه هي واجبات الإمام كما حددها الفقهاء، وهي تدخل جميعا تحت واجبين اثنين، هما: إقامة الدين، وإدارة شئون الدولة في حدوده([1]).
أقول: إذا تأملنا هذه الواجبات وجدناها جميعا لا تعدو تحقيق مقاصد الشريعة، وقد بينا من قبل أن مقاصد الشريعة ليست شيئا خارجا عن ماهية الشريعة أو نصوصها، بل هي مستثمرة من نصوصها استقراء واستنباطا.
وهذه المقاصد كما هو معلوم هي توفير العيش الكريم للشعوب، وحفظ حرياتها، وتحقيق الأمن الخاص والعام في المجتمعات، وحفظ دين الأمة ونفوسها وعقلها ونسلها وعرضها ومالها، وهذه هي مقاصد العيش الإنساني الكريم كما أراده الله تعالى، ونزَّله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في حياته بالمدينة المنورة على أرض الواقع.
ومن القواعد الفقهية المتفق عليها بين علماء القواعد الفقهية قاعدة: (تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة)، وقد عدها كثير منهم ضمن القواعد الكلية.
وقد ذكرها الشيخ أحمد الزرقا ضمن كتابه، وقال: “التصرف على الرعية منوط بالمصلحة، أي: إن نفاذ تصرف الراعي على الرعية ولزومه عليهم شاؤوا أو أبوا معلق ومتوقف على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن تصرفه، دينية كانت أو دنيوية. فإن تضمن منفعة ما وجب عليهم تنفيذه، وإلا رد؛ لأن الراعي ناظر، وتصرفه حينئذ متردد بين الضرر والعبث، وكلاهما ليس من النظر في شيء.
“والمراد بالراعي: كل من ولي أمرا من أمور العامة، عاما كان كالسلطان الأعظم، أو خاصا كمن دونه من العمال، فإن نفاذ تصرفات كل منهم على العامة مترتب على وجود المنفعة في ضمنها، لأنه مأمور من قبل الشارع أن يحوطهم بالنصح، ومتوعَّد من قبله على ترك ذلك بأعظم وعيد، ولفظ الحديث أو معناه: “من ولي من أمور هذه الأمة عملا فلم يحطها بنصح لم يرح رائحة الجنة”([2]).
أما الشيخ محمد صدقي البورنو، فقال في كتابه الذي استخلصه من موسوعته في القواعد: “إن تصرف الإمام وكل من ولي شيئاً من أمور المسلمين يجب أن يكون مبنياً ومعلقاً ومقصوداً به المصلحة العامة، أي بما فيه نفع لعموم من تحت يدهم، وما لم يكن كذلك لم يكن صحيحاً ولا نافذاً شرعاً.. فهذه القاعدة تضبط الحدود التي يتصرف في نطاقها كل من ولي شيئاً من أمور العامة من إمام أو والٍ أو أمير أو وقاض أو موظف، وتفيد أن أعمال هؤلاء وأمثالهم وتصرفاتهم لكي تنفذ على الرعية وتكون ملزمة لها يجب أن تكون مبنية على مصلحة الجماعة وخيرها؛ لأن الولاة والعمال والأمراء والقضاة والقادة وغيرهم ليسوا عمالاً لأنفسهم، إنما هو وكلاء على الأمة في القيام بشؤونها، فعليهم أن يراعوا خير التدابير لإقامة العدل، وإزالة الظلم وإحقاق الحق، وصيانة الأخلاق، وتطهير المجتمع من الفساد، ونشر العلم ومحاربة الجهل، والحرص على الأموال العامة ورعايتها وإنفاقها فقط فيما يعود على الأمة بالخير والنفع، كما لا يجوز لهم أن يحابوا بها أحداً دون أحد لجاه أو لسلطان أو رغبة أو طمع؛ لأنه لا يجوز للوالي أن يأخذ درهماً من أموال الناس إلا بحق، كما لا يجوز له أن يضعه إلا في يد تستحق، كما لا يجوز له كذلك أن يأخذ من مال أحد شيئاً إلا بحق ثابت معروف”([3]).
بل إن الدكتور محمد الزحيلي أوقف نفاذ تصرف الحاكم على مدى اتساقه مع مصلحة الأمة، قال في شرحه للقاعدة السابقة: “إن نفاذ تصرف الراعي على الرعية، ولزومه عليهم – شاؤوا أو أبوا – معلق ومتوقف على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن تصرفه، دينية كانت أو دنيوية، فإن تضمن منفعة ما وجب عليهم تنفيذه، وإلا ردّ؛ لأن الراعي ناظر، وتصرفه حينئذٍ متردد بين الضرر والعبث، وكلاهما ليس من النظر في شيء.
ثم يبين الزحيلي أصول هذه القاعدة فيقول: “والأصل في هذه القاعدة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية، يموت وهو غاش رعيته، إلا حرم الله تعالى عليه الجنة” (رواه البخاري ومسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لم يجهد لهم وينصح لهم كنصحه وجهده لنفسه، إلا لم يدخل معهم الجنة” (رواه مسلم والطبراني)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من استعمل رجلاً من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين” (رواه الحاكم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” (رواه أحمد والحاكم)، ونص على هذه القاعدة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وقال: “منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم “. وأصل ذلك ما أخرجه سعيد بن منصور في “سننه” عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: “أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، وإن أيسرت رددته، فإن استغنيت استعففت”([4]).
فهذه القاعدة لو حكّمناها في ممارسات أي نظام سياسي؛ سواء في الابتداء أو الأثناء أو الانتهاء، لأقمنا بها وحدها حكما سياسيا رشيدا، وسياسة شرعية متكاملة، تراعي نصوص الشارع، وتسعى لتحقيق مقاصدها، وتضبط ممارسات الحاكم وكذلك تصرفات الشعوب.
([1]) الأحكام السلطانية للماوردي: 22-23. تحقيق أحمد مبارك البغدادي. مكتبة دار ابن قتيبة. الكويت. 1409هـ، وانظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء: 27-28. دار الكتب العلمية، والإسلام وأوضاعنا السياسية لعبد القادر عودة: 183-184. ، والتشريع الجنائي الإسلامي له أيضا: 1/ 43، والإسلام والاستبداد السياسي لمحمد الغزالي: 106.
([2]) شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا: 309. دار القلم – دمشق / سوريا. الطبعة الثانية، 1409هـ – 1989م.
([3]) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية للبورنو: 347-349. مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان. الطبعة الرابعة، 1416هـ – 1996م.
([4]) القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة للدكتور محمد الزحيلي: 1/ 493-493. دار الفكر – دمشق. الطبعة الأولى. 1427هـ – 2006م.
Leave A Comment